زلزال بيروت... من يدفع الثمن؟

العراق 2020/08/10
...

ابراهيم العبادي 
 
سريعاً بدأ السجال في لبنان بعيد الانفجار - الزلزال - الذي دمر الميناء واصاب قلب بيروت الاقتصادي في مقتل، وشرد 300 الف، وخرب عشرات الالاف من المكاتب والمنازل والابنية والشركات 
التجارية .
انفجار بيروت الكارثي  سيكون حدثا مفصليا ليس في لبنان فحسب وانما في عموم منطقة الشرق الاوسط، فموقع لبنان الستراتيجي، وخصوصيته الجيوسياسية، ونظامه السياسي الفريد، وموقعه على خطوط طول وعرض الصراعات والحروب السياسية والطائفية، وانقسام نخبه السياسية بين اتجاهين متعارضين، كل ذلك يجعل من الحدث لحظة فارقة في زمان المنطقة الجديد، نعم انه زمان جديد تعاد فيه صياغة التوازنات ورسم مساحة الصلاحيات، واعادة تعريف مفهوم السيادة وفق معطيات القدرة على التصرف بارادة حرة وليس مطلق الحرية كما يقتضيها التعريف القانوني 
للسيادة .
لبنان يعيد اكتشاف نفسه، يكتشف امكانات القوة والبقاء لدولته متعددة الطوائف، بعد مئة عام على اعلان دولة لبنان الكبير عام 1921، لقد اكتفى اللبنانيون من الحماية الخارجية غير الجادة، وهم يعيدون اليوم تعريف مفهوم دولتهم بين فكي رحى صراع ما لبث يشتد بين خصوم هذه المنطقة، ودول الوصاية والتدخل فيها، فسوريا الدولة الام تترنح بعد عشرة اعوام من الصراع والتدخل الخارجي، والفكر الاستقلالي والتوجه الليبرالي الذي وفر للبنان بحبوحة التمايز عن محيطه العربي المثقل بمشكلات الاستبداد، انتهى عمليا  في اتفاق الطائف عام 1991، وعاد لبنان يلعق جراح الحرب والصراع الطائفي الخفي والمعلن، ولكن ليس عبر الخنادق والسلاح كما جربه طيلة 16 عاما من الحرب الاهلية (1991-1975)، انما عبر التنافس على من يستملك المواقع الادارية والهيمنة على المؤسسات والاطقم الحكومية، واستبدال الصراع بين اليمين غربي  الهوى واليسار القومي او الماركسي،  بصراع بين فكرة المقاومة وفكرة التبعية، فضاق لبنان بمساحته الصغيرة على اهله الذين تعودوا حياة الحرية والانفتاح واقتناص فرص العيش بين جبهات الخصوم وفسحات السلام الهش والقدرة على تسويق الذات بحذاقة التاجر الذي يسترضي الزبائن كل الزبائن، بلا بحث عن عقائدهم وانتماءاتهم الايديولوجية ومواقفهم 
السياسية .
بعد قرابة ثلاثة عقود  من عمر دولة الطائف واخفاق المجتمع اللبناني في تشييد (الدولة الراسخة) التي تستطيع الصمود امام عواصف المنطقة وحروبها، حيث اسرائيل العدوانية،  وخصومات الدول الاقليمية التي اختارت لبنان ليكون مساحة نفوذ وتجارب واختبارات لستراتيجيتها الامنية والسياسية ... 
لم يعد امام اللبنانيين سوى مصارحة الذات وتحديد اولويات الدولة والمجتمع في ضوء انتهاء عصر البحبوحة المالية وانكسارات الاقتصاد المخيفة وتهاوي سمعة البلد المالية، وتبدل التحالفات والتوازنات التي افاد منها لبنان في ما سبق من تاريخه. لبنان اليوم يصحو على كوارث بدأت صغيرة وانتهت بكارثة (البور) كما يحلو للبيارتة تسمية الميناء، فالبور ليس محطة صغيرة يمكن استبدالها بسرعة، بل هو حكاية من حكايات عمر الدولة المنفتحة ذات الوشائج الواسعة مع العالم اجمع، تدمير البور يعني انتهاء حقبة من عمر الدولة، بل كتابة نهاية لعمر الدولة الفريدة لصالح بداية جديدة لا يعرف اللبنانيون كيف ستكون؟ هل ستكرر مشكلات الدولة السابقة وصراعاتها،؟ هل ستعيد التوازن للبنان وتنهي عصر الاستقطابات الايديولوجية؟ هل تختار التمرد على خطوط احزمة النار التي تحيط بها؟ او تتعايش معها وتسير في الطرق نفسها التي جربتها 
في السابق؟.
هذه الاسئلة لن يكون يسيرا الاجابة عنها في ظل انقسام كبير بين معسكرين شرقي (مقاوم) وغربي (مساوم)، لبنان الذي عاش الفرادة المحسودة سياسيا، لا يستطيع ان يكرر هذا التفرد من جديد، بعد ان زحفت عليه خطوط التماس الخارجية، لكنه مضطر لتحسس موقع اقدامه في احلك فترة من تاريخه المعاصر، فحيث يقترب الجوع والافلاس، ويزداد ظلام الصورة التي كانت زاهية يوما ما بالدخل الفردي العالي والحرية الكبيرة والمناخ المفعم بالتنوع والتعدد في كل شيء، تضيق خيارات لبنان  كثيرا، ويجد نفسه محشورا بين اتجاهين متعارضين مجددا،  الشرق ام الغرب، الشرق بزعامة الصين والغرب بزعامة 
اميركا .
لقد خسر لبنان القيمة الستراتيجية التي كان عليها بوصفه محطة اتصال الشرق بالغرب، رغم انه لم يكسب كثيرا من موقعه الجيوسياسي الحالي بسبب ازدحام المشاريع السياسية الضاغطة، فخريطة المنطقة تنوء بصراع محاور جديدة، حيث تل ابيب وباريس والرياض وابوظبي من جهة وطهران ودمشق وموسكو من جهة اخرى، واخيرا الدب الصيني الذي يزحف بطريقة الباندا بكل ثقله الاقتصادي واستثماراته التي تعيد ترسيم خريطة العالم الجديد ضمن مشروعها الحزام 
والطريق  .
لبنان الذي يريد اعادة اقتصاده وابعاد شبح الافلاس والجوع يحتاج الى استقرار وتضامن وطني جديد،  قد يقوده الى تجربة حكومة وحدة وطنية، وهذه الحكومة ستكون ممثِّلة لجميع الاطياف والقوى المتعارضة في اهدافها وسياساتها كشرط  لضمان مجيء الدعم والاسناد والتمويل لإعادة الاعمار، كما ان مجيء الاستثمارات يحتاج الى تفهم لسياسات ومصالح الدول التي لن تمول وتدعم دونما تأكيد لنفوذها وهيمنتها وتأثيرها في القرار السيادي اللبناني، ان عودة لبنان مركز تقاطع مصالح وتوازن نفوذ هو ما سيكون مطلب المواطنين التواقين لاعمار بيوتهم ومحالهم وشركاتهم المدمرة، لانهم لن يفكروا بغير مصالحهم واقتصادهم، ومن يقدم لهم يد العون اكثر سيكون هو صاحب التأثير الاكبر، هذا دون ان يعني ان اللبناني بلا مبادئ ولا انتماء، انما صعوبة اللحظة الراهنة وخيار الاضطرار بين ان يجوع او يستعيد عافيته الاقتصادية هو ما سيحتم عليه الاختيار، كما ان القوى السياسية المحلية ستكون مأخوذة بهذا الخيار لضمان التأييد والتأثير والاحتفاظ بجمهورها، عودة لبنان  نقطة استجمام وسياحة وترانزيت التي هي عماد اقتصاده الوطني ستكون محور النقاش والسجال الوطني القادم اكثر من اي وقت مضى، والاستقرار السياسي في لبنان لن يكون بغير ثمن تدفعه جميع الاطراف والقوى السياسية وهو مشروط بالتخلي عن منطق  تسجيل النقاط والمكاسب على حساب سيادة وقوة الدولة وعلاقاتها الخارجية، هذا الثمن يستدعي حسابات عقلانية تركن الايديولوجيات جانبا، وتضع مصلحة الدولة والمواطن المنهك اولا، وبالطبع لن يكون ذلك ممكنا من دون توافق جدي على تفعيل مسار التنازلات بين الموالاة والمعارضة، بحيث لا يكون لبنان جزءا من محور، ولا في عداء ضد محور اخر، انها معادلة صعبة، ولكنها معادلة يحتاجها مستقبل لبنان القريب، ومستقبل الدولة البعيد، بعد ان يكون للشعب قراره النهائي في كيفية مواجهة التحدي الاسرائيلي دونما انفراد من طرف 
او هيمنة لاخر .