د. عذراء ناصر
"ايام المجد" هي ترجمة عنوان الفيلم الفرنسي الجزائري بالانكليزية (Days of Glory) بالفرنسية (Indigènes) وفي تسميته الأخرى بالعربي "السكان الأصليون" اختير كواحدٍ من أفضل أفلام الحرب ورشح لجائزة أفضل فيلم غير أميركي في جوائز الأوسكار واعتمد منهجاً للدراسة البحثيَّة ضمن كورس أدب الحرب في بعض الجامعات البريطانيَّة. عرض الفيلم في العام 2006 في صالات العرض العالميَّة وحقق مبيعات تقدر بـ 22 مليون دولار وبميزانية تقدر ب 14.5 مليون دولار.
شاهدتُ الفيلم للمرة الأولى بعد دعوة من مشرفتي على أطروحة الدكتوراه في أدب الحرب عام 2014 وقد عرض في سينما الجامعة للمحاضرات المسائيَّة وكانت تريد ترجمة بعض الكلمات العربية في حوار الجنود في بعض
المشاهد.
مأساة عريف جزائري
الفيلم من إخراج المخرج الجزائري رشيد بوشارب الذي قدم النجوم: المغربي جمال دبوز (سعيد) والتونسي سامي بوعجيلة (العريف أو كوربورال عبد القادر) اللذين جسدا استذكاراً لمأساة العريف الجزائري وزملائه المتطوعين في جيش فرنسا الحرة (Free France Forces) صنف الجنود غير الفرنسيين المتطوعين في فوج المناوشات الجزائري في الجيش الفرنسي عام 1943، المجموعة التي شاركت في الحرب العالمية الثانية لدعم الجيش الفرنسي وتحرير فرنسا من احتلال الألمان النازية.
كوربورال عبد القادر الذي قاتل حتى وفاة آخر جندي جزائري معه لحماية قرية فرنسية لم يحصل على أي دعم خلال القتال حتى خسر جميع جنوده وأصدقائه وأبناء بلده ونجا هو
بأعجوبة.
بعد الصمود وإبعاد الألمان وصلت قوات الجيش الفرنسي للاحتفال مع سكان القرية بالنصر وقوة الجيش الفرنسي وهذا ما يجسده المشهد الأخير للمعركة، إذ لا تحية لكوربورال إلا من القرويين الناجين من المعركة والذين شهدوا البطل الحقيقي للمعركة.
المساواة السلبيَّة
يجمع الفيلم من خلال نجومه شخصيات أربعة جنود مغاربة وجزائريين تطوعوا للقتال ملاحقين حلم المال والحرية والحب والمساواة مع الفرنسيين المحليين لكنه يظهر مدى التمييز والعنصريَّة التي يواجهونها، والتي تصل كما يظهر أحد المشاهد
المساواة السلبيَّة الى عدم السماح للجنود من شمال افريقيا بالحصول على الطماطم ضمن الوجبة اليوميَّة أسوة بالجنود الفرنسيين، ما دفعهم الى الإضراب وأعمال شغب على رحلة السفينة المغادرة الى فرنسا تولى فيها الكوربورال عبد القادر تحطيم جميع صناديق الطماطم لتحقيق المساواة السلبيَّة بعد أنْ فقدت المساواة الإيجابيَّة بالمشاركة، فإنْ لم يكن من حق الجنود الأفارقة الحصول عليها لن يحصل عليها الفرنسيون
أيضاً.
تحمل السفينة الجنود الأربعة مسعود الباحث عن الحب، ياسر الباحث عن المال لتزويج أخيه المتطوع معه، سعيد الباحث عن المجد، وعبد القادر المتعلم الوحيد بينهم الذي يحلم بأنْ يصبح يوماً ضابطاً برتبة رقيب (Sergeant) في الجيش الفرنسي رغم تأكيد الضابط الفرنسي عليه مراراً وتكراراً أنَّ هذا لن يحدث مطلقاً حتى لو قدم حياته ثمناً لذلك، لكنَّ عبد القادر لم يقدم حياته بل قدم حياة أصدقائه البلديين جميعا تاركين وراءهم أحلامهم التي ظلت تلاحقه الى نهاية حياته وهو يجلس أمام شواهد قبورهم في المقبرة
الفرنسية.
قاد الكوربورال عبد القادر جنوده لحماية القرية جنوب فرنسا على أمل النجاة والوصول الى طريق الأمان وقد وافقوا بعد أنْ فقد مسعود الأمل بمعاودة الاتصال بأيرين الفتاة الفرنسية التي أحبها غير عارف بمنع السلطات الفرنسية وصول رسائلها إليه بإشراف الرقابة العسكريَّة، وبعد أنْ قتل أخ ياسر ليفقد الأمل بالمال الذي يحتاجه من أجله وبعد أنْ اقتنع سعيد أنَّ لا مفر إلا من مواجهة العدو وحماية القرية جنوب فرنسا للوصول الى المجد
، سعيد أو جمال دبوز الذي فقد ذراعه الأيمن بالكامل في حادث خارج الفيلم وأدى دور سعيد طول الفيلم من دون أنْ يظهر المخرج هذا الأثر حتى لا يكاد المشاهد ينتبه الى مثل هكذا نقص خلال الفيلم إلا في بعض المشاهد التي تتطلب حمل السلاح حيث يندفع سعيد لحمل مسدس صغير بيده اليسرى بدل الرشاش الآلي الذي يتطلب استعمال كلتا يديه أو رمي قنبلة يدوية فقط للسبب
ذاته.
أقسى أنواع العنصريَّة
قد يبدو الفيلم توثيقياً لغرض تسجيل بطولات جنود شمال افريقيا في الحرب العالمية الثانية، لكنَّ أهمية الفيلم تكمن في تسليطه الضوء على واحد من أقسى أنواع العنصرية والتمييز الذي مارسته فرنسا عبر تاريخها، إذ أقرت عام 1959 قانون صرف حقوق التقاعد للناجين من الحرب العالمية الثانية من الجنود المشاركين مع الجيش الفرنسي من المستعمرات الفرنسية إلا أنَّ القانون لم ينفذ وبقي معطلاً حتى عام 2002، حيث أقر مجلس الدولة صرف المعاشات المقرة وفق قانون عام 1959 رغم أنَّ الكثير من المستحقين قد فارقوا الحياة. ورغم هذا الإقرار بقي القانون معطلاً ولم يحصل أولئك الجنود أو ذووهم على تلك المستحقات بسبب تعطيل الحكومات الفرنسية المتعاقبة لها على مدى نصف
قرن.
خيبة أمل
يجسد مشهد عودة عبد القادر خيبة الأمل هذه ووجع المعرفة التي طلما أظهرها خلال الفيلم بدوره المتعلم والمحرض على التعلم والقراءة والكتابة لكنه يظهر للمشاهد في المشهد الأخير راجعاً من زيارته لقبور أصدقائه القتلى هائماً في شوارع فرنسا مستدلاً طريقه الى غرفته الضيقة التي تبدو أنها داخل سكن حكومي للمسنين ولا يظهر فيها سوى سرير وطاولة صغيرة تشغل الفراغ جالساً في قلب فرنسا بهدوء في خلوته البائسة وحيداً بلا حب ولا مجد ولا مال ولا ترقية ولا مساواة.