‎كيف تقدّمتم؟

الصفحة الاخيرة 2020/08/11
...

 جواد علي كسّار
 
‎يحدّث أحد الوزراء أنه التقى مسؤولاً كورياً مهمّاً، وسأله عن السرّ وراء النهضة التي اجتاحت كوريا الجنوبية، وجعلت الناتج الإجمالي القومي يبلغ حدود (1800) مليار دولار سنة 2018م، قبل أن يتراجع قليلاً بعد ذلك ليستقرّ في حدود (1600) مليار؟
‎ذكر هذا المسؤول قصة بلده ليس مع الفقر والبؤس وحدهما، بل مع الذلة والاستغلال والاستعمار. فمع الغزو الياباني لكوريا مطلع القرن العشرين، عاش الكوريون تحت وطأة هجوم شرس، وصل إلى محاولة محو الهوية ومحاربة الكوري في لغته، وحريته في اختيار التسميات المحلية وإرغامه على الألقاب اليابانية. ‎وما إن انفلتت كوريا من وطأة الاستعمار الياباني مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان، حتى وقعت فريسة الحرب الكورية 1950 - 1953م وما نجم عنها من انقسام البلد إلى كوريتين شمالية وجنوبية، بعد أن أوقعت الحرب خسائر في الأرواح بلغت أكثر من (100) ألف قتيل، وضعف ذلك من الجرحى، وأضعافه من المفقودين، بالإضافة إلى التضخّم ودمار المنشآت، والتوزيع غير العادل للمؤسّسات الصناعية، فعلى رغم تواضعها إلا أن ما يزيد على 90 ٪ منها صار من نصيب كوريا الشمالية!
‎يروي المسؤول الكوري جانباً حزيناً آخر من جوانب العتمة في المشهد الكوري يومذاك، حين كانت كوريا بعد الحرب والتقسيم ونهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، أحد أفقر بلدان العالم وأسوأها بالخدمات والاتصالات، ونسبة الوفيات وحجم البطالة، حتى حازت في استبيان معدلات الفقر مطلع الستينيات، على المرتبة (71) في لائحة أفقر بلدان العالم، بعد السنغال والسودان ومدغشقر!
‎زاد من تفاقم المشكلة أكثر النموّ السكاني المتسارع بل الكثيف، ففي غضون عشر سنوات تقريباً، ازداد عدد السكان (7) ملايين، ما شكّل عبئاً إضافياً ضاعف من بؤس البلد وفقره وتعاسته، قبل أن يبدأ وضعه بالانفراج التدريجي ببناء الاقتصاد الوطني عبر مجموعة مراحل، واكتساح الأسواق الخارجية وتصدير السلع والخدمات، والغزو السلعي المنظم، بحيث تحوّلت كوريا إلى دولة قيادية، واكتسبت مقعداً على خطّ الاقتصادات العشرة الأولى في العالم، وأصبحت من الدول الثلاثين المتقدّمة في حصة الفرد من الناتج الداخلي. ‎للكوريين الحقّ أن يتحدّثوا عن تجربتهم بفخر بعد أن صاروا المصدر السابع للسلع في العالم، وثالث دولة في فوائض الميزان التجاري بعد الصين وألمانيا، وحقّقوا قفزات هائلة في الصادرات، ففي عام 1962م كان حجم صادراتهم مليار دولار فقط، في حين قفز إلى (500) مليار عام 2016م.
‎مرّة أخرى كيف حصل ذلك وتحوّلت كوريا من دولة متخلفة إلى دولة بهذه المنزلة من التقدّم؟ يوضح المسؤول الكوري في جواب الوزير الذي سأله؛ إن سرّ هذه النقلة يعود إلى الشعب الكوري نفسه واستعداده للتضحية، وهو يقول: لقد أغلقنا الحدود على أنفسنا، ورحنا نستفيد من بضاعتنا البسيطة المصنّعة داخلياً رغم رداءتها، وكان ذلك سرّ النجاح. أكثر من ذلك يضيف المسؤول الكوري: لكي ننافس اليابان، بعنا بضاعتنا ومنتجاتنا المحلية للكوريين بأغلى من ثمنها، ووفرنا فارق السعر لدعم صادراتنا، وقد تحمّل الشعب ذلك، وكان معنا، لكي نفوز بالمنافسة. ‎خلاصة ما أكده المسؤول الكوري ان العوامل الخارجية وان كانت مؤثرة، إلا أن المعجزة الكورية تحقّقت في الداخل وعلى يد الشعب الكوري نفسه، وبالعمل والكدّ والمثابرة، وليس بالشعارات الجوفاء والكسل والتبجّح والفراغ، وبالإدارة الإنتاجية وليس بالاستهلاكية القذرة المقزّزة.
‎لذلك لم يكن عجباً أن يكون الرأسمال البشري المستند على العلم والمعرفة المتخصّصة، هو الأساس الصلب لهذه التجربة، التي تعدّ فيها كوريا الدولة الخامسة عالمياً من حيث الاستثمار في البحث العلمي والتطور التكنولوجي.