كيف تعايشت الديمقراطية مع الرأسمالية؟

العراق 2020/08/20
...

عدنان أبوزيد
أسست ديمقراطيات بنّاءة، ستراتيجيات عظيمة سارت على هديها الشعوب، بعد تعثّر في المسار، رسمته عقود من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، أسّست للمآسي في تاريخ الأمم.
لا توجد تجربة واحدة في العالم، لم تقع أسيرة سوء التخطيط، وخطأ التقدير، و حِيل الأيديولوجيات التي لغّمت العقول بالدسائس والمنافع، لكن في الأمم الحيّة، يتحوّل الثوار الى مهندسي عمار، والمقاتلون الى بنّائين، وانصهرت معادن الأسلحة، وحديدها في بوتقة المعامل والسكك وهياكل المستشفيات.
لم يحدث ذلك، من دون إدارات رشيدة تتوفّر على درجة سامية من المسؤولية الوظيفية والمهنية الخلاقة، بعد أنْ عانت طويلا من تراخي القرار وتشتّته، واستحواذ الكينونات الفرعية عليه، وغياب الدولة كمستوعِب، الأمر الذي حوّلها الى اقطاعيات، تحتكر الثروة، وتُوجّه الأحداث نحو مصالحها الضيقة. ولم تستفق تلك الشعوب، الاّ حين احتوت أزمة القيادة، وصنعت لنفسها كاريزما إدارة ناجحة تتوافق مع البيئة الاجتماعية والسياسية، وتستقرئ عواطف وانفعالات الشعب.
 كان المستشار الألماني هلموت كول، صاحب كاريزما القراءة الجرئ، صريحا في الإفصاح عن أسباب اختيار الشعب للديمقراطية بعد التجربة النازية، بالقول انّ الأمة اتخذت الطريق الصحيح، لكن الديمقراطية، تتوفر على فجوة تمكّن الفوضى، من النفاذ منها، إذا لم يتم تمييزها. 
هذه النبوءة، تحدث في الديمقراطية العراقية الناشئة، فهذا البلد الذي تخلّص من الفردية السلطوية، وقع في فوضى 
من التشاركية الجماعية، التي من المفترض ان تبرز نتائجها الإيجابية، وليس العكس.
لم تحقّق اليابان وكوريا الجنوبية مشاريع الخلاص من الفقر، الا بديمقراطية منضبطة، انحسر فيها الفساد الى حد كبير، الامر الذي أنتج دخلا قوميا، انفِق على مشاريع النهوض.
 وصل الإجلال والتبجيل للديمقراطية، وتداعياتها، في اليابان، الى الحد الذي قيل فيه ان البلاد تحكمها “دكتاتورية منتخبة” في إرهاصة من الافراط في القرار المركزي الواحد، وقد أدى ذلك الى انتحار وزراء وأصحاب شركات كبرى اذا ما تورط احدهم في فساد.
«المعجزة الآسيوية» ليست وليدة شركات القطاع الخاص، وتوطين التقنية، فحسب، بل هي من منتوج الإرادة السياسية في ديمقراطيات وليدة كانت مهددة بالفوضى.
تخطّت النمور الاسيوية، تحوّل القطاع الخاص الى حيتان فساد، بالمساءلة الصارمة عن مصادر أموال الشركات، ونسب تشغيلها العمالة الوطنية، وغلق جميع سبل التهرّب الضريبي، الى الحد الذي أصبح فيه رئيس الشركة الغنية، عبدا للدولة، وخادما للشعب، وكلما اثرى، فاض بماله على الناس عبر الاقنية التي توفرها القوانين الصارمة.
لم تردع الديمقراطيات الحقيقية، مراكز القوى، وتحاسبها على أي تجاوز فحسب، بل ردعت اساطين الصناعة، ومالكي الشركات الأثرياء، وحوّلتهم الى أدوات فعالة في التنمية، في ادنى درجات فساد ممكنة، ومن ذلك ان شركة هيونداي الكورية الجنوبية وشركة بروتون للسيارات في ماليزيا، اصبحتا احد أعمدة التطوير، وليس مجرد بالوعات تخزن أموال المالكين، ولو وُجدت شركات عملاقة مثل فيسبوك وامازون في دول هشّة الديمقراطية، لتحولت الى كيانات أكبر من الدولة.
الديمقراطية الامريكية، أنجبت الآلاف من أصحاب الملايين، الذين تحوّلوا لاحقا الى سياسيين، لكنهم لم يصبحوا يوما مركز قوى لا تعترف بالدولة، فكانت النتيجة انّ قطب العقارات ونجم تلفزيون الواقع دونالد ترامب، بات “أعظم رئيس وظائف على الإطلاق”، على الرغم من خبرته السياسية القصيرة. 
لكي لا يصح القول بان الديمقراطية هي حكم الغوغاء، مثلما لا يصلح القول ان الديمقراطية هي عملية احتيال تقوم بها النخب للسيطرة على الحكم، فانّ علينا النظر الى الديمقراطيات صاحبة الإنجاز، التي تجاوزت مفهوم كون الديمقراطية مجرد قواعد تشريعية، الى اعتبارها ثقافة وسلوكا على مستوى المواطن، والنخب.