راية العباس!

الصفحة الاخيرة 2020/08/25
...

حسن العاني 
 
هي الذاكرة كذلك حين تنفض عن كاهلها متاعب السنين العجاف ، بمقدورها استحضار احداث مخبأة في الروح وان مضى عليها من العقود سبعة او ثمانية او يزيد ، كذلك هو المشهد الان في منطقة الجعيفر ، هنا كان منزلنا في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي وانا تلميذ في الصف الثالث الابتدائي.. وعلى مبعدة مئة متر ينهض بستان عظيم المساحة يدعى ( بستان السيد)، تقول الناس إنَّ اسمه السيد محمد الصدر وانه وزير او رئيس وزراء..
توفيت والدتي رحمها الله وانا ابن سنة واحدة، وتكفل (خالي) وزوجته رحمهما الله تربيتي، وكانا لا ينجبان، وكانت زوجة خالي بمنزلة امي، ولانني (ابنها الوحيد) فقد نذرت لسلامتي من أي مكروه علماً اخضر تتوسطه عبارة (ياحسين) ارفعه مع الأولاد الذين من عمري كلما (حل عاشور) حيث تمر المواكب من امام بيتنا في طريقها الى بستان 
السيد.
كان شقيقي الأكبر واسمه (حسين)، يناكدني كثيراً ويعبث بلعبي الخاصة، ولهذا حين عرفت لأول مرة بعد تعلمي القراءة، ان رايتي تحمل اسم حسين، أقمتُ الدنيا بكاءً، وطالبت براية جديدة لا تحمل اسم شقيقي مع انه لا يسكن معي، ورضخ خالي الحاج سبتي العاني ، وزوجته الحاجة صبرية الدليمي، وقاما بتهيئة راية جديدة تحمل كلمة (العباس)، وهكذا أصبحت في منزلنا رايتان، قامت (امي) برفع الأولى على ستارة بيتنا، اما الثانية وهي ملكي الخاص فلا يقرب احد مها، واحتفظ بها في دولاب ملابسي ولا تبرحه الا عند المناسبات!! حل (عاشور)، وقدمت المواكب من عدة مناطق وسمعنا الصوت من بعيد، كنا أطفال الطرف وصبيانه على اتم الاستعداد للمشاركة، ولهذا خلعنا (دشاديشنا) وربطناها على اوساطنا ، كاشفين عن صدورنا التي كانت في الغالب من دون (فانيلة). 
النسبة العظمى من الأولاد كانت تحمل رايات صغيرة شبيهة برايتي، وحين وصل الموكب اندسسنا بين شبابه ورجاله.. كنت في غاية الانتشاء والزهو الداخلي لان راية العباس ترفرف فوق رأسي ، ويدي تلطم صدري بحماسة.. على هذا النحو كان الموكب يتقدم ببطء.. ووصلنا اخيراً الى البستان، ورأينا عند بوابته العملاقة رجلاً فارع الطول واللحية بملابس سود.. سمعت الأولاد يتهامسون فيما بينهم 
(هذا هو السيد) ..
تركنا اعلامنا قريباً من البوابة كما يقضي العرف يومها من غير ان اعرف السبب، ودخلنا البستان، وعند مدخله تولى بعض الشباب عزلنا عن الكبار وقدموا لنا اقداحاً من (الشربت) ثم طلبوا منا مغادرة المكان فيما واصلت المواكب مسيرتها الى أعماق البستان، وحين خروجنا عثر الأولاد جميعهم على راياتهم، الا رايتي ، فعدت كسير الخاطر ودمعة حزن تشرق في عيني.. اخبرت (امي) بالحكاية فطيبت خاطري ووعدتني بواحدة جديدة، وكانت جارتنا ام كاظم قد شهدت الموقف فقالت لامي [راية المحروس – تقصدني – اخذها واحد شيعي يطلب بيها مراد لأنها راية سني] واذا كنت يومها اجهل مدلول السني والشيعي فمن حقي اليوم ان أقول: إذا كان الشيعة يطلبون المراد من السنة، والسنة يطلبونه من الشيعة، فكيف يفكر أبناء اللئيمة باشعال حرب بينهما وراية العباس ترفرف فوق رؤوس الجميع؟