بعد خمسة أيام من وقوع انفجار بيروت الذي أسفر عن مقتل أكثر من 220 شخصا وتشريد 300 ألف شخص، طاف جوزيف خوري وزوجته غابرييلا كاردوزو في جولة مؤلمة بمنطقتي الجميزة ومار ميخائيل، التاريخيتين المجاورتين للمرفأ الذي شهد الانفجار.
وحمل الزوجان 30 بطاقة بريدية تحمل كل منها صورة من مجموعة صور «بيوت بيروت»، التي التقطاها قبل الانفجار لتوثيق روعة العمارة العثمانية والفرنسية في بيروت. وتفقدا أطلال المباني وواجهات المنازل التي شوهت الكارثة معالمها، واستطاعا أنْ يتعرفا على 25 مبنى، وتركا أمام كل منها بطاقة بريدية للتذكير بما كانت عليه قبل الحادثة.
مبان تغيرت معالمها
وتقول كاردوزو، المهندسة المعمارية التي تنحدر من فنزويلا وانتقلت إلى بيروت منذ ست سنوات: «لم نكن نعرف ما الذي سنفعله في نهاية المطاف. كل ما هنالك أننا كانت لدينا بطاقات بريدية تحمل صورا لمبان تغيرت معالمها تماما جراء الانفجار، واتفقنا على أن نترك الصور أمام هذه المباني لعل الناس يتذكرون كيف كانت تبدو قبل الكارثة».
ولم يتمكن الزوجان من التعرف على خمسة أبنية لأنها تحولت إلى أنقاض جراء الانفجار.
وفي أعقاب انفجار الرابع من آب، الناتج عن شحنة قدرها 2,750 طنا من نترات الأمونيوم كانت مخزنة في مرفأ المدينة، زادت التساؤلات حول كيفية حماية ما تبقى من الإرث المعماري بالمدينة. فمنذ أنْ وضعت الحرب الأهلية أوزارها قبل ثلاثة عقود، تهدمت آلاف المباني التاريخية في بيروت. فقد استغل مطورو المباني تراخي الدولة في حماية التراث المعماري، وهدموا الكثير منها وأقاموا على أنقاضها أبراجا حديثة.
ويخشى الكثيرون الآن من أن يُتخذ تضرر هياكل المباني إثر الانفجار ذريعة لتدمير الأبنية التاريخية القليلة المتبقية. وحظيت مجموعة الصور التي تظهر خوري وزوجته يحملان البطاقات البريدية أمام المباني المتصدعة بأكثر من 1,500 مشاركة من أشخاص يشفقون على مصير هذه المباني.
640 مبنى تاريخياً
وكانت منطقتا الجميزة ومار ميخائيل من بين المناطق الأكثر تضررا من الانفجار. فقد انهارت مبان عديدة، وأطاح الانفجار بجدران وأسقف مبان أخرى، وسقطت شرفات حجرية على الطرق فحطمت السيارات، وتناثرت أجزاء البلاطات من أسطح العمارات في أرجاء الشوارع، ولم يتبق من الشرفات المزينة بالحديد المطروق سوى قضبان معوجة، وتحولت مصاريع النوافذ الخشبية الملونة الرائعة إلى شظايا قاتلة.
وذكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، التي تعهدت بقيادة الجهود الدولية لترميم المباني الأثرية، أن الانفجار ألحق أضرارا بـ 640 مبنى تاريخيا. ويواجه 60 مبنى آخر خطر الانهيار. وتقدر التكلفة الإجمالية لترميم المباني الأثرية بنحو 300 مليون دولار.
ووقع هذا الانفجار بعد سلسلة من الأزمات التي واجهها لبنان، بدأت باندلاع احتجاجات واسعة في تشرين الأول الماضي استمرت لشهور تزامنا مع انهيار الاقتصاد اللبناني وفقدان الليرة اللبنانية نحو 80 في المئة من قيمتها.
وتقول كاردوزو: «اشتعلت شرارة الثورة في 17 تشرين الأول وأعقبها وباء كورونا والآن الانفجار». وتحذر كاردوزو من أن سكان المباني المتضررة قد لا يملكون المال الكافي لترميمها.
ومنذ أن دشنت كاردوزو مع زوجها مشروع «بيوت بيروت» في عام 2016، التقطا العديد من الصور للمباني التاريخية بشارعي الجميزة ومار ميخائيل، الذين يحتضنان الكثير من المراكز الثقافية ومراسم ومعارض الفنانين، والدكاكين الصغيرة والمطاعم والحانات الشهيرة.
وسلط الزوجان الضوء على المباني التي فقدت رونقها وترك الزمان بصماته على واجهاتها، من المصاريع المشققة والنوافذ المكسرة إلى الثقوب والشقوق التي خلفها الرصاص والقنابل إبان الحرب الأهلية التي درات رحاها في لبنان خلال الفترة بين عامي 1975 و1990.
وقبل الانفجار، كان الإهمال قد نال من بعض المباني التاريخية المهجورة حتى أوشكت على الانهيار. وتقول كاردوزو: «تحمل البطاقات البريدية في بيروت عادة صورا تظهر كل شيء نظيفا ومهندما. ولهذا شعرنا بضرورة التقاط صور تظهر بيروت على حقيقتها، دون تجميل أو تصنع، فهي أحيانا تكون فوضوية ومليئة بالتناقضات».
ويرى خوري، الذي تربى على قصص عن روعة مباني بيروت قبل الحرب، أن هذه المباني رمز لماضي لبنان ومستقبلها. ويقول: «هذه المباني هي جزء من هوية بيروت، فهي تعطينا أملا في المستقبل وتذكرنا بالأيام التي بلغت فيها بيروت أوج ازدهارها».
جمال هش
يقول أنطوان عطالله، المهندس المعماري والمخطط العمراني ونائب رئيس جمعية «انقذوا تراث بيروت»، إن الجميزة ومار ميخائيل من أوائل المناطق التي أقيمت خارج سور المدينة القديم. ويضيف: «لحسن الحظ، صمدت المنطقتان أمام الحرب الأهلية وتمكنتا من الحفاظ على طابعهما القديم في مواجهة زحف العمارة الحديثة في بيروت الذي أدى إلى تدمير الكثير من المباني العتيقة وتقطيع أوصال الكثير من المناطق التاريخية».
وعلى عكس المباني العثمانية والفرنسية المنتشرة في أنحاء بيروت بين العمارات الحديثة الشاهقة، فإن «هاتين المنطقتين تشكلان نسيجا حضريا متكاملا لا يزال آمنا وسليما ومتماسكا».
وتضم المنطقتان الأبنية العثمانية، التي يعود بناؤها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل البيوت المكونة من طابقين التي يزين أسقفها القرميد الأحمر. وتتضمن أيضا مبان تعود للحقبة من عام 1920 إلى 1945 عندما كانت لبنان خاضعة للانتداب الفرنسي. وقد صممت هذه المباني على غرار الطراز المعماري في باريس، لكنها تحمل بعض عناصر العمارة العثمانية. وتتكون هذه المباني من ثلاثة أو أربعة طوابق، وكلها متلاصقة مع بعضها، وتتضمن شرفات مزينة بالحديد المطروق.
لكن عطالله يقول إن الأبنية العثمانية أكثر تأثرا بالانفجار، لأنها تتضمن ردهة فسيحة وثلاثة أقواس تقسم الواجهة إلى قسمين، وترتكز الواجهة بأكملها على عواميد رخامية دقيقة ورفيعة.