تبدو الحربُ موضوعًا شاملًا في قصص محمد جبر علوان، فتكاد أن تكون مجوعته( تراتيل العكاز الأخير) أرشفةً لما بعد الحرب، أو هي إجابة لسؤال أزلي: ماذا فعلت بنا الحرب، بدءًا من القصة الأولى المهداة إلى الشاعر عبد الزهرة زكي (حفارو الخنادق)، إذ وضعنا في أجواء الحرب التي لم تنفع معها الخنادق التي حفروها، فهي تنال من يظن أنَّه في مأمن منها.
وفي قصة ( ضوء أزرق أسفل الوادي) يرصد القاص الانكسارات التي يعيشها الطرفان وهما يفكران بقبح الحرب، وما يمكن أن تخلفه عندهما:" الانتظار في الحرب يسبب رعبا أكثر من الحرب ذاتها، تنتظر من سيأتي ليقتلك أو ربما تقتله.. والأَمران يشكلان بحدِّ ذاتهما رعبًا حقيقيًّا بالنسبة لي على الأقل ، لكني واثقٌ أن هناك من يفكر في الطرف الآخر
من الجبل".
وكأن القاص هنا يريد أن يكتب إدانةً واحدةً للحرب، لم ينظر إليها ، الا بمنظار واحد لا غير " كان إنصات فخري لصوتي ، وأن أقرأ ما كتبه غلام يبثُّ في عقلي شفرات تشابههما في العشق على الأقل، والخوف من الحرب".
فقد تساوى الطرفان في نظرتهما إلى الحرب، وإلى الحياة، فالقصة إذن النافدة التي أطلنا من خلالها على أجواء الحرب من الوجهة
الإنسانيَّة.
حكاية نسوة
وفي قصة ( تراتيل العكاز الأخير)، يبرز أحساسٌ انسانيٌّ كبيرٌ بإزاء تلك الحروب، وما تركته من جروح عميقة في الشخصية العراقية، لم تستطع العقود الثلاثة محوها، وهو ما عبر عنه الكاتب سعد محمد رحيم بـ " كما لو أنها جروحٌ غائرةٌ عصيةٌ على الزوالِ".
وموضوعُ القصةِ يكاد يكون حكاية مجموعة كبيرة من النسوة اللواتي فقدن أزواجهن وتُركن وحيداتٍ في مجتمعٍ ظالمٍ، تصارع المرأة ذكوريته، ونظرته
الدونية لها.
فقد حملت القصة إسقاطات ما بعد الحرب، وهي تحكي حكاية ذلك المعاق الذي قاده البحث عن ساق صناعية للوصول إلى أحد بيوت المعاقين المتوفين الذي احتفظت زوجته بساقه الصناعية، بغية الحصول عليها، بعد أن أصبح الحصول عليها أمرًا صعبًا؛ لقلة الانتباه لهذه الشريحة الواسعة من ضحايا الحرب في زمن الحصار، فيعرض الأمر على زوجته التي تمانع للوهلة الأولى، لكنها تذهب فيما بعد إلى المقهى المتخذة من أحدى أشجار السدر؛ لتسلمها إلى صاحبها المعاق الذي يضعها إلى جانب عدد من الأقدام الصناعية، ومن ثم تبدو المفاجأة، أنه حين احتذاها، أخذت به إلى بيت صاحبها المتوفى؛ فيقرر إرجاعها
إلى زوجته.
المرأة الارملة
لقد عالج القاصَ موضوعًا اجتماعيَّا خطيرًا هو (المرأة الأرملة) التي غادرتها الحياة بمغادرة زوجها ، فقد رمز لذلك بالحديقة التي تُركت تصارع الإهمال، فلم تعدْ تُعنى بها، وصارت ( مكبًّا للنفايات)، وما طلبها من الرجل المعاقرمي عقب سيكارته الا تكريس لذلك الإهمال الذي طال حياتها كلها، والحديقة المهملة هي رمز لحياتها التي أصابها الذبول، وظهور الرجل المعاق في حياتها هو ماءٌ جديدٌ يدبُّ في جسدِ حياتِها، ويتضح ذلك في انتباهه للحديقة التي دخلها" دخلت لا أعرف كيف إلى الحديقة، سحبت الكرسي نحو زاوية معتمة، وجلست دون أن أعرف لماذا، مضى وقت طويل هيمن فيه صمت عميق، وأنا في حالة ذهول، حاولت ان أذيبه حينها، بدأت بتنظيف الحديقة من الأوراق المتيبسة والساقطة من
الأشجار".
كما تظهر عودة الحياة إلى بيتها في العبارة الأخيرة التي كررتها مرتين:" ما الضير في أن يقودك الطرف إلى بيتي كل يوم"؟سارت قصص المجموعة كلها على هذا المنوال والتدفق المنساب في السرد، واللغة القصصية المكتنزة والمكثفة التي حاولت أن تدخل في عوالم أصبحت خارج عنايتها، عالم ضحايا الحرب التي انتهت ومأساتها لمَّا تزل حاضرةً، وعالم المرأة الأرملة التي سلبتها الحرب بهجة الحياة، وتُركتْ وحيدةً تعيشُ على الذكرياتِ،و(طالب) بطل قصة ( ملاذات طالب العجيبة) التي نالت منه الحياة وحوَّلته إلى جسدٍ معطلٍ، وطالت من ذكورته، فجعلته يصرخ" انا عاطل، و كل ما في روحي وجسدي عاطل"، وغيرها من شخصيات قصصه
الأخرى.
وبعد ، تعدُّ مجموعة ( تراتيل العكاز الأخير) انتقالة كبيرة في منجز القاص محمد جبر علوان موضوعيًّا وفنيًّا، فضلًا عن اصطفائه لغة قصصية مميزة، وشخصيات هامشية عاشت قابعة على السطح، من دون أن تجد بقعة ضوء في عوالمها المعتمة.