«وهم القمر}

ثقافة 2019/01/08
...

ياسين النصير
 استعير هذا المفهوم من العالم البصري ابن الهيثم، الذي تدرس نظرياته في البصريات في جامعات العالم، ويعد من حيث المكانة العلمية غاليلو غاليلي العصر الإسلامي، ومفهوم وهم القمر، مفهوم مكاني، وهو ما جلبني للتعليق عليه، فهو "يخص المسائل المتعلقة بإدراك المسافة والعِظَم"، "المسافة" هي ما يقاس بين الأشياء، حتى أن التمييز في كل المواقف يقاس بالمسافة التي نتحدث من خلالها، أو التي تجعل الأخر موجودًا، ضمن نطاق الخطاب، أو تحدد علاقتك بكل عمل تقوم به ، وحقيقة الأمر لو تصورنا أن حياتنا بلا مسافات، ماذا سيكون عليه الوضع البشري؟ ستكون الناس كتلة لا فواصل بينها، وسيكون العالم عبارة عن واحد غير متنوع ضمن مكان لا مسافات فيه. ومن مفهوم البنية المكانية للمسافة، إلى مفهوم البنية الإجتماعية والنفسية والعملية للمسافة نجد عددا من العلوم تتحرك في المسافة البينية، ومنها خطوط الهندسة ونقاطها ومجلاتها والجمالية والوظيفية المناطة بها، و نظريات الاقتصاد بكل تشعباتها، وبنية وحدود المفاهيم الفلسفية، والتمييز بين فكرة واخرى، أو بلد وآخر. 
عندئذ سنجد المسافة مفهوما كونًا قادرا بنى انشتاتن عليه نظريته النسبية العامة والخاصة.  أما مفهوم "العِظَم"، هو ما يُرى". أي حجوم كتل ومادية الأشياء المرئية" لقد درس ابن الهيثم أوهام النظر عندما سلط أنظارنا على الكتل، فاستخلص أن عظم الشيء لا تعينه سطوحه، ومنها أننا ننظر إلى القمر عبر سطحه، أي اننا نراه صغيرًا وهو كبير، فالسطوح تؤسس للوهم، بينما ماوراء السطح هو من يجب تسليط الضوء عليه. 
ومن تباين حجم القمر أخذ تعبير العِظَم اي كبر الشيء أو صغرة، بغض النظر عن رؤيتنا إليه. ونجد الظاهراتية تبنى تصوراتها على الرؤية العيانية لسطح الأشياء، وغالبًا ما تكون الأشياء كبيرة أو صغيرة تبعا للمسافة التي تقاس بالنظر إليها، وعلى ضوء وهم الكتلة التي سماها ابن الهيثم" وهم القمر" نجد الظاهراتية تكشف عن اللامرئي في الأشياء المرئية، أي الرؤية لما وراء 
سطحها.
نحن المهتمون بالمكان، نجد أن فلسفة المكان تتركز اليوم على المسافة التي جاء بها أدورد هال، في كتبه الانثروبولجية، ومنها كتابه "البعد الخفي" الذي يعد ثورة علمية كبرى، وسعى إلى كشف ما يشغل المسافة، التي تحدد العلاقات بين الأشياء والناس والمجتمعات، فما نعيشه، وما الحجم أو العِظَم، إلا بنى من تكوينات المسافة، عندما تكون الكتل المرئية بعيدة أو قريبة، اي أن الرؤية إلى الكتلة تتغير عندما تكون قريبة أو بعيدة، وبالتالي فاحكامنا يجب ان تتغير. ركز البحث المكاني في المسافة على علوم انثروبولوجية تخص الإنسان في علاقاته اليومية والإجتماعية مع محيطه. 
وشخص للمسافة أربعة حقول كبيرة هي:  المسافة الحميمية، المسافة الشخصية، المسافة الإجتماعية، والمسافة الجماهيرية، ثم قسم كل مسافة منها إلى مسافة قريبة ومسافة بعيدة، وبذلك تكون المسافة من ثمانية 
حقول. 
وسنجد عبر التحليل لأي نص ثقافي أن بنية النص تعتمد على تنوع المسافات بين الأحداث والشخصيات والضمائر وتركيب الجمل والعبارات وصولًا إلى الفواصل بين الكلمات.  وحدد ادورد هال أبعاد هذه المسافات بالسنتمترات، مبتغيًا من وراء ذلك تأسيس علم للمكان أسماه "البروكسيميا". ويعالج هذا العلم اليوم كل الأنشطة المعمارية، والإجتماعية، والسياسية، والثقافية، والعملية، والنفسية، والطبية، 
والتقنية... الخ. 
وبدون احتساب المسافة بين الشيء والشيء الآخر، لا تستطيع تكوين أية معرفة عن العالم. تصور أن سكان بغداد مثلا، يسيرون في شورعها وهم ملتحمون بعضهم ببعض، ترى ماذا سيكون المشهد الفنطازي لو تحقق ذلك ؟ لكن فرضت على الإنسان أن يخلق المسافة كي يتحرك ويعمل ويفكر، و يتفاهم  ويرى، ويسمع، ويحقق وجوده . او يكوّن حيزًا أو موضعًا، يمكنه ان يصنع  فيه  خطابه. ولا نتصور المسافة مجرد بعد مادي يقاس، إنماهي أديولوجيا، وطرائق فهم، وعلاقات، وبنى اجتماعية، وخطابات، وفلسفة، وتفرعات معرفة العلوم، وبالتالي فالمسافة أحد أهم عناصر تحقق الكينونة للفرد.
 أما الحجم أو "العِظَم"، فهو التكوين الذي يتغير كلما تغير مكان الكتلة، أوتغيرت الرؤية إليه، فالكتلة البعيدة تكون حركتها حسب الرؤية؛ صغيرة وقصيرة، وهو ما يشير ابن الهيثم إلى حركة الكواكب وصورة القمر خلال 28 يومًا، ويذهب التحليل المكاني حسب ما يوضحه جوزيه موراييس  عن كيفية ادراك الزمان والمكان، مستشهدًا بابن الهيثم ومايسمى بوهم كتلة القمر، عندما تتغير الرؤية له وهو يسبح في الفضاء المرئي.تتغير مفاهيمنا 
عن المسافة.
لسنا هنا بصدد استعراض أوهامناعن الأمكنة والأزمنة، فقد أصبح التفكير فيهما، واحداً من أهم أساليب الفكر الحديث، فالقمر والأشياء، وما نراه ونلمسه ونتعامل معه، ونفكر فيه، ونستعيره كأمثلة، يعيش معنا في عالم من السطوح، "اي أن ما نراه من الأشياء هو سطوحها (وهنا يوجد منظور بيئي إلى حد ما)، كما أن للمسافة تأثيرها في صورة نسيج السطوح ( أو منحنياتها)، على شبكية العين. وكل سطح ليس عموديًا على خط النظر ستبدو صورته تدرجًا في النسيج" هذا ملخص لوهم القمر، من أننا نعيش في رؤيته متعالقة مع سطح الشيء، وعندما اكتشف القمر نتيجة الرحلات الفضائية أصبح مكانا من أمكنة الإنسان المعاصر، التي تحمل رموزا تتصل بعمقه لا بسطحه ، فوهم القمر، تعني تلك النظرة التي تتعلق بسطوح الأشياء، لا بمكوناتها، وهم تبسيطي يستثمره من يؤمن بأن ما قيل سيبقى أساساً للفهم، دون الحاجة إلى نقده أو تأويله أو تحليلة او تطويره. 
فالسطح يوهمنا انه الحقيقة، في حين انه مدخل من المداخل إلى الحقيقة، أي بإمكاننا أن نمارس عليه رؤيتنا وأن نوطنه ثقافتنا، ونخضعه لاقصاد 
معولم.
علينا، في مجال الأدب، والمكان الذي اشتغل عليه منذ اربعين سنة، الّا نقف عند سطوح أمكنتنا الصغيرة، بل نتغلغل في أعماقها، ونتصورها كوناً كبيراً. كل ابداع يزيد من سعة المكان، هو مكان جديد، وكل جملة ترفد المكان بلغة جديدة، هي جملة مكانية، لذا على الأديب أن يكون فيلسوفًا بالقدر الذي يوطن نصه رؤية كروية "وهم القمر"، ومسافة كالمسافة الحميمية مع 
الأشياء. وبدون هذين العنصرين، لايمكن لأي نص أن يكون معاصرا، حتى لو جاء بما يسند هويته ويثبت انتماؤه للمعاصرة.