الحلة: محمد عجيل
كعادتها استيقظت أم حميد ذات الخامسة والستين عاماً مبكراً، وتوجهت نحو بيت جارها كي توقظه بعد أن اعتادت أن تنقل في (ستوتته) صباح كل يوم خضارها من علوة (النزيزة) الى بسطيتها على ضفاف شط الحلة، وهي واحدة من عشرات البسطيات التي امتدت بمحاذاة الجسر الخشبي، منها ما تعرض الخضار وأخرى الفاكهة وبعضها الخردة، وأخذت أم حميد تنادي بصوتها المبحوح بسبب صراخها المتواصل يومياً، (بامية، باذنجان، خيار، فلفل، تعال جاي بلاش، بلاش)..
ساعة واحدة
بعد ذلك طغى صوت (الشفل) وهو يقترب من تلك البسطيات، ما أثار ذعراً بين أوساط الباعة، وتزاحمت أصواتهم، فمنهم من هرب بما لديه من بضاعة، ومنهم من طلب من المسؤول التريث حتى يحمل ما لديه، لكنَّ أم حميد جلست مشرئبة نحو سائق (الشفل)، الذي نظر إليها برأفة وكأنه يعرفها منذ زمن منادية عليه (على كيفك وياي أنا مثل أمك.. ما عندي والي)، وفي تلك اللحظة شعر المسؤول البلدي كما يصف لنا ذلك قائلاً: «أكاد أرى أنَّ الأرض تنطبق على السماء وحينها ناديت على السائق أنْ يبتعد عن بسطيتها مع إنذارها لساعة واحدة فقط كي تفرغ من بضاعتها أو تنقلها الى مكانٍ آخر بعيداً عن منطقة التجاوز».
ثورة الإعمار
أم حميد واحدة من عشرات المواطنين الذين يفترشون الأرض يومياً وسط مدينة الحلة، من أجل كسب رزقهم اليومي بحلال، بعيداً عن منيَّة الآخرين، لكن هم يريدون شيئاً والقانون يريد شيئاً آخر، إذ لا بدَّ من فتح الأرصفة وتنظيم الطرق واستعادة ألق المتنزهات، من قبل الدوائر البلدية المغلوبة على أمرها، فكل شيء في مدينة الفيحاء خرابٌ في خراب نتيجة الفساد الإداري والمالي والإهمال الحكومي على مدار سبعة عشر عاماً، وقلما نجد مكاناً جميلاً لا تؤطره الأوساخ وبسطيات الباعة، يقول: «لم تعد الحلة فيحاء كما وصفها الشاعر صفي الدين الحلي في قصيدته التي مطلعها (من لم تَر الحلة الفيحاء مقلته، فإنه في انقضاء العمر مغبون)، فهي تحتاج الى ثورة في مجال الإعمار، ويد مخلصة تبنيها من جديد، حتى الناس البسطاء الذين يرحلون مع بسطياتهم الى عالمٍ أكثر بؤساً وفقراً، لم يجدوا بديلاً وصوتهم الخافت لم يعد له صدى لدى الطرف الآخر».
وأضاف الأديب حسين: «كنّا نتطلع الى عصرٍ ذهبي يعيد بعضاً من تاريخ حضارة بابل، التي علمت الإنسانية أبجديات الكتابة، لكننا للأسف عدنا الى الوراء عشرات السنين، وأتذكر كان هناك تنظيمٌ للمدينة بأكشاك ودور سينما ومسرح وشوارع مكسوَّة ومخططة، وأماكن خاصة لوقوف السيارات، لكن ما يطغى على محافظتنا اليوم بسطيات ومبانٍ عشوائيَّة شوهت الأماكن، وحولتها الى أنقاض.. وما يثير سخطنا أنَّ ما حدث كان بعلم السياسي والمسؤول».
حلم الكشك
ونحن نتجول في المناطق التي شملتها حملات الإزالة، التقينا ببائع الشاي المتجول قاسم توفيق (44عاماً)، الذي عبر عن امتعاضه من الإجراءات وقال: «لم أعد أكسب قوت يومي، فأنا متعود يومياً أنْ أبيع الشاي على أصحاب البسطيات، والآن لا أدري ماذا أفعل كي أوفر لأطفالي ما يريدون، عشت طوال السنوات الماضية حالماً بـ(كشك) محل صغير يمنحني الاستقرار المعيشي، لكنْ للأسف حتى أسعار المحال التي تمنحها بلديات بابل لا تتناسب مع قدراتنا الماديَّة، وكما ترى انهم اليوم يرفعون هذه العشوائيات التي تؤمن جزءاً يسيراً من حاجة الناس، من دون التفكير جدياً في توفير فرص عمل، فإما لك أنْ تدفع وتفرغ جيبك، أو أنْ تقف عند باب سياسي يجلب لك وظيفة مقابل أنْ تؤدي له اليمين أنْ تختاره في الانتخابات المقبلة، وأعتقد أنَّ الوقت قد حان من أجل تصحيح الأوضاع، والقضاء على الفساد والفاسدين».
مساهمة
وفي مقابل صوت الرفض كان هناك صوتٌ للتأييد، إذ عبرت ميادة عبد الحسن (36 عاماً) موظفة في تربية بابل عن سعادتها في تنفيذ الحملة لأنها تعيد الوجه الحضاري لمدينة الحلة، وقالت: «أسهمتُ بشكل فعال في دعم الحملة، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لأني أدركت أهمية مشاركة الجمهور في صنع القرار وتطبيق القانون، وانَّ انتظار تفعيله من قبل المسؤولين يعدُّ ضرباً من الخيال».
الأيادي النزيهة
يا ترى أين طبخ قرار رفع التجاوزات لأنَّ الأمر يكاد يكون مرفوضاً سياسياً من قبل ودون توفير البدائل للعديد من جماهير الكتل والأحزاب يرى مسؤول رفع التجاوزات في مديرية بلدية الحلة علي البيرماني أنَّ «توفير البدائل ليس من صميم عمل الدوائر البلدية، لأنَّ العشوائيات أعمالٌ مخالفة للقانون ولا يمكن إيجاد بديل للمخالف، بقدر فرض غرامات عليه، وهذا معمولٌ به في مختلف البلدان، إذ إنَّ جميع قراراتنا بالرفع لا تستهدف الفقراء من أصحاب البسطيات، إلا ما ندر فمثلاً أثناء حملتنا أمام مقر المحكمة الاتحاديَّة، أخذنا بعين الاعتبار بعضها ممن يبيعون الشاي والسندويشات، شريطة ألا يتعارض ذلك مع طريق المارة ورجال القضاء».
وأضاف البيرماني أنَّ «قرار رفع التجاوزات يحتاجُ الى إرادة وأيادٍ نزيهة، إذ لا يمكنك أنْ تعمل بيد وأنت تتلقف الرشاوى باليد الأخرى، كما أنه يحتاج الى دعم القضاء والقوى الأمنية، لأنَّ هناك من يتمادى في سلوكياته، معتقداً أنَّ الجهات التي سمحت له بالتجاوز يمكنها أنْ تسنده أثناء الاعتداء على الموظفين».
وأشار الى أنَّ «حملاتنا الأخيرة في رفع التجاوزات، لاقت استحسان الجماهير، وأنَّ الكثير منهم أيدنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأنَّ الإجراءات التي اتخذت غيرت من شكل المدينة».
ضغوط سياسيَّة
وفي دائرة أخرى أسهمت في هذه الحملة، وهي قائممقامية قضاء الحلة وجدنا القوة والحزم في تطبيق قرار مجلس الوزراء في رفع التجاوزات، إذ قال قائممقام القضاء صباح الفتلاوي في تصريح صحفي: إنَّ «المحافظة تشهد لأول مرة حملة مدعومة من قبل دائرة محكمة استئناف بابل، فضلاً عن الحملة الإعلاميَّة التي قادها المواطنون ومطالبتهم في فتح الطرق، وإخلاء الأرصفة، ما زاد من عزيمتنا في رفع كل التجاوزات على كورنيش الحلة، علاوة على إلغاء عددٍ من باركات وقوف السيارات غير المرخصة من قبل دائرة البلديَّة، والتي كانت تجبي أموالاً من المواطنين من دون وجه حق».
وأشار الى أنَّ «الحملة واجهت في بدايتها ضغوطاً وتدخلات سياسيَّة، إلا أنَّ المواطن قال كلمته، وأنَّ أي شخص يعترض هذه الحملة يدخل في المحرقة، وهو مصطلح أطلقناه على الحملة».
وأوضح أنَّ «سبب عدم القيام بمثل هذه الحملات في الفترة الماضية، هي التدخلات السياسيَّة والعشائريَّة، لكنْ هذه المرة لن نتوقف وستكون هذه الحملة نبراساً لعملنا المقبل، وسنفرض هيبة الدولة وتطبيق القانون»، مشيراً الى أنَّ «هناك مقرات وبنايات لشخصيات سياسية تمت إزالتها، ونحن نعد الجميع بأننا لن نهدأ حتى نرى مدينة الحلة خالية من التجاوزات والعشوائيات».