بانوراما الخلود.. {مسرح الدمى} يسردُ واقعة الطف

ريبورتاج 2020/09/29
...

  كربلاء: زهراء جبار الكناني
أفلت صغيري مصطفى يده من كفي ليهرول الى منصات نصبت في الطريق، يسترق النظر لما تحتويه بعد م كنا نأخذ قسطا من الراحة، لنكمل رحلة مسيرنا الى كربلاء، لإحياء مراسيم زيارة الاربعين، انتابني الفضول للحاق به من عدم الانتظار الى حين عودته لسؤاله، عما تحتويه تلك المنصات، وحينما اقتربت سمعت اصوات غرغرة مدامع لبعض النسوة، امتثلت أمام تلك المنصات، واذ بها مسرح من الدمى الصغيرة يسرد واقعة الطف بتفاصيلها، مسرح يثير العبرة تعاقبت به لوحات تمثيلية يستنطق أحداث الفاجعة وما جرى على أهل بيت النبوة. 
انهالت مدامعي دون دراية، فقد كان منظر كفي ابي الفضل ورأس المضروب بالرمح اكثر ما شد انتباهي واثار عبرتي، هذا ما سردته لنا ام مصطفى حينما شاهدت مسرح بانوراما الخلود.
 
تفاصيل العشق
في المسير الى كربلاء مشاهد كثيرة، تخطف القلوب، وتذهل العقول تفخر بها ابجدية الانسانية، حيث تتزاحم صور الايثار لما يشهده ذلك الطريق من سيل الخدمات، التي يتفنن بها عشاق الحسين بن علي (عليه السلام)، ففي كل شبر ثمة شربة ماء من سخاء العباس، ورغيف خبز عجنته أيادي الصبر، ووسادة دافئة انسلت خيوطها من بقايا الخيام المحترقات، ودثار من عفة عباءة زينب، لم يكتفوا بذلك فكانت مواكب العزاء ترافق المسير الى قبلة الاحرار، ومن بين تلك الصور، لا بدَّ من أن يستوقفك ذلك المسرح الكبير بشأنه الصغير، بمجسماته التي صنعت من الدمى والتي تأسر العين. 
 
المسرح العظيم
ابو ايهاب اعتاد السير منذ خمس سنين، عامدا بهذا الطريق من ناحية عون لزيارة الامام عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام)، والتوقف عند عمود (31) لمشاهدة هذا المسرح العظيم بحسب تعبيره، حدثنا قائلا: "هناك طريق آخر مختصر في رحلتي الى مدينة كربلاء المقدسة، غير اني افضل هذا الطريق لأتوقف عند هذا المسرح بالذات، ففي كل عام يضيف القائمون عليه لوحات لوقائع اخرى من احداث ترتبط بتضحيات الحسين واصحابه (عليهم السلام) في نصرة الحق ودحر الباطل".
واضاف "بعد التقصي علمت أنَّ من يقومون بهذا العمل أسرة واحدة، واني لأحيي هذه الاسرة الكريمة التي سخرت افكارها وجهدها لتقدم هذا العمل الاكثر من رائع، فمبارك لهم هذه الخدمة التي انفردوا بها عن اقرانهم من الخدمات الحسينية".
 
رواية المصيبة
بينما قال الشاب ياسر علي: "كان عمري عشر سنوات وانا ارتجل مع ابي الخطى حيث قبلة الاحرار، وكنت أصر أن أتوقف ساعة او اكثر لأتطلع الى هذا المسرح، وفي كل مرة امني نفسي بالحصول على دمية احتفظ بها، غير ان الخجل يعتريني بطلبها، وبمرور السنوات تناسيت الامر، حتى أصبحت أعشق التفرج عليه بالتسلسل، وكأني اقرأ رواية المصيبة على هيئة دمى، واليوم قد بلغت الرابعة والعشرين، حيث اصبحت أراه بصورة أعمق يملؤها الأسى لما يحمله من معانٍ أليمة".
 
طيف وطف
أسرة بغدادية من منطقة الشعب، انفردت بموكب من نوع اخر تبنت العمل به لشهور متتالية، انطلقت به منذ عام (2004) حتى يومنا هذا، اذ تميز موكبهم بلوحات تجسدت بدمى ثابتة، تختصر حكاية ما زال نبضها يتحرك في قلوب العاشقين، وزعت بين مناضد غطاها الرمل، تسرد واقعة الطف، توجهت (الصباح) الى الحاجة ام حيدر لتحدثنا عن بداية مشوارها الحسيني بهذا الجانب: "لطالما تجلت فكرة انشاء بانوراما الطف في خيال زوجي ليجسدها على ارض الواقع، فشاركته انا وابنائي ذلك الحلم ليبصر النور، وفي كل عام نباشر الاستعداد لتهيئة احتياجات الموكب، ويكون يوم السابع من صفر الانطلاق الى كربلاء حيث نبدأ بتشييد موكبنا". 
وعن كيفية صناعتها قالت: اعتمدنا بصناعتها من مادة البلاستيك وأقمشة ملونة وبعض المواد الأخرى، وفي كل عام نضيف لمسرحنا حادثة معينة تجسد ما يلحق بالنهج الحسيني من 
عقيدة ورسالة سامية. 
 
الطريق الى الجنة
لم تكن لأسرة الحاج ابا حيدر ميزانية ثابتة لتكاليف موكبها، ولم يكن هناك متبرعون لا في المال ولا في المجهود العضلي للعمل، فقد تولى هو وافراد أسرته المكونة من خمسة اشخاص، انجاز ما يقارب ثماني لوحات، ابتداءً من خروج الامام الحسين (عليه السلام) من المدينة المنورة، ثم استشهاد مسلم بن عقيل (عليه السلام)، تليها صبيحة وظهيرة العاشر من محرم، ودفن الاجساد الطاهرة، ومسير ركب السبايا الى الشام، ثم دخولهم الى مجلس الطاغية، حتى عودتهم في العشرين من صفر الى مدينة كربلاء، ليختم العمل بلوحة الطريق الى الجنة، كما هناك خمس لوحات اخرى قيد التنفيذ. 
وعن مشاعر الزائرين اثناء مشاهدة اللوحات وضحت الحاجة "نستطيع تقسيم الزائرين الى عدة اقسام، منهم من يتعامل بالعاطفة الجياشة تجاه اللوحات، ومنهم من يقرأ التاريخ وكأنه كتاب مفتوح امامهم، ومنهم من يراها مجرد دمى لضعف بصيرته".
 
مراحل العرض
كما رصدنا مراحل العرض المسرحي، بخطوات صنعت بدقة وحرفة وفكر نوعي، والأهم إنه عمل امتزج بدموع المواساة والألم، حيث نهر الفرات وصدى الظمأ، وبقايا صرخات ما زالت عالقة في مسامع الأنين (العطش .. العطش)، فقد استعانت أم حيدر في تنفيذ فكرة نهر الفرات بمواد بسيطة جدا، الا أنها توغلت في عمق التاريخ بهذه الفكرة، وكأن الزمان عصي على النسيان، فبمحاذاة رمزية نهر العلقمي ترى كفين مقطوعتين وعلى مسافة منه جسد بلا 
كفوف.
تتويج الأقمار
تقول أم حيدر عن هذا العمل: "لا أتمالك دموعي، حينما أبدأ بترتيب الشخوص والمواقع والأحداث، ومع أني أتعامل مع دمى لكني أستشعر الواقعة".
ثم اردفت "أهم التفاصيل وأعمقها ألما هو رمزية رض صدر سبط الرسول المصطفى بسنابك الخيل، اذ تكون تلك الفاجعة كبيرة لدرجة أنه لا توجد ذاكرة تقتنع بنسيانها، فرائحة الحرب والموت ما زالت تزكم أنف التاريخ لهول ما جرى في يوم الطفوف، ومن بين تلك المجسمات مجسم يجذب الرائي ويثير العبرة وهو وجود رمزي في منتصف زحام الرزية يحاكي حضور الزهراء (عليها السلام).
وتواصل حديثها قائلة: "اقمنا مسرحا يقل به عدد الشخوص، وتبرز مساحات واسعة من الصحارى المقفرة، ترمز الى رحلة السبي الاليمة، فيمكن معرفة ذلك من خلال الدمى التي تجسد ركب السبايا المخدرات تطوق معاصمهن سلاسل من حديد، كما تبرز شخصية الإمام السجاد (ع) فقد بينا انحناء ظهره، كما صنعنا في مقدمة الركب أقماراً تتوج أسنة الرماح".
 
أم الأحزان
وقد اثار انتباهنا أمر يدمي القلوب، لم يبدُ واضحا للوهلة الاولى، وهو توجه الرؤوس إلى الأمام إلا رأس الحسين (عليه السلام)، يرنو إلى الخلف يتفقد حال السبايا وطفلته التي سقطت من فرط الغياب والعطش، وهو يرتل آيات الله من وحي شفتيه الذابلتين.
وهكذا تختم أسرة ام حيدر، عظيم عملها بين قصر يزيد، وتوظيف القطع الرمزية للإشارة إلى بذخ ملوك الظلال، وموقف سيدة الصبر والكبرياء زينب (عليها السلام)، وهي تلجم أفواه الكفر بخطبتها الهادرة، ومشهد تكاد تفجع من هوله السماوات، وهو اناء كان يحتضن رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، قبل أن تحتضنه طفلة غفت والتحفت بالموت، بعد أن عجز قلبها على متابعة نبضه لحظة مشاهدتها لرأس أبيها دون جسد، ثم جسدت جميع تفاصيل زيارة الأربعين.
ختمت لنا ام حيدر حديثها قائلة: "حاولت ألا أنسى أي أمر رأيته أو سمعت عنه في طريق الزائرين، مع أن هذا الطريق باذخ بالصور والمعاني، وربما أعجز عن تجسيد جزء بسيط لدرب العاشقين، مع أني وضعت رموزا لشخوص عرب وأجانب، فضلا عن رموز المسيحيين والديانات الأخرى، التي تتوحد عقيدتها في كربلاء العطاء، كما بينت موائد الطعام والشراب والكرم الذي أدهش العالم، لأنهي هذا العمل قبيل المرحلة الأخيرة، بدخول رمزيات الزائرين إلى ما بين الحرمين لأداء مراسيم زيارة أئمة الهدى، حيث جسدت ضريحي الإمام الحسين والعباس (عليهما السلام) في المرحلة الأخيرة من بانوراما الخلود لطف كربلاء".
 
دعاء الوفاء
وبينما نهم بالرحيل عن مسرح الطف المصغر، التصقت يد الحاجة ام حيدر بيدي، طالبة الولوج عبر سطور صحيفتنا بدعاء توجهت به الى سيد الشهداء، فما كان لي ان ارفض لها طلبها امام عظمة هذا العطاء، لتقول"عذرا يا سيدي يا ابا عبد الله، فلن استطيع الوفاء بكل حقك فكلماتي مهما بلغت لن تكون بمستوى دروسك العظيمة، من انا وما قدري وانت الامام وابن الامام وانت سبط الرسول، وريحانة البتول وابو الائمة الاطهار، ولكن ما يشفع لي عندك انني محبة لك، اوالي من والاك، واُعادي من عاداك، وقلبي وروحي لديك، جسدتهم بهذه اللوحات البسيطة لذا ارجو منك 
القبول".