الطريق الى كربلاء.. مسيرة الإنسانيَّة الخالدة

ريبورتاج 2020/09/30
...

  ذوالفقار يوسف
 
عندما يعترف الطريق بأول خطوة، تلك اللحظة التي ترتبط اقدام العاشق بنواياه الاعجازية، ذلك الترقب المهيب نحو بوابة الخلاص من الشر، وبإنسانية مطلقة تبتعد عقارب الساعة عن دقاتها، يتلعثم الزمن في كلمته امام حضرة ذلك الانسان المقدس، فالجميع قد توجه اليه قربة الى الله، اعترفوا بإنه ذلك المنقذ الأبدي نحو عالم النصر، وحكيم الاصلاح في الدنيا الموبوءة، انه رجل السلام والاسلام، وكيل الربيع، وكفيل السماح، فما كان من الروح الا ان تُقبل طريقه في كل سنة بشفاه العاشقين.
حامي الصلاة
منذ الأمد اقتنعت الأرواح بفرادة هذا السبيل، فهو صراط العشق الازلي، ونهج من اراد ان يسمو نحو النقاء، فمن ذا الذي يمنع القلب من الوصول، فما أن قررت الروح، اعطت اوامرها لكل عضو في الجسد، بأن لا منزلة أفضل من المسير نحو مدينة السماء، انها لم تك خطوات فقط، بل هي دعاء، وكما تحاور النفس الاحلام، حدثنا العاشق احمد عبد علي (34 عاماً) عن عشقه وقال: " كيف لي ألا أمضي، وكل ما بي يسير نحو قبلة الاحرار، وهل استطيع منع الروح عن قرب حبيبها وامامها، ومن لي شفيع اذ لم يك شفيعي الحسين، متى سأنال مرة أخرى هذا الوسام في الارتحال نحو سيد الشهداء، وهل ستطيب العين الا برؤية قبابه المقدسة في ايام نضاله من اجل الانسانية، لذلك أدعو من الله أن أوفق كما في السنين السابقة للوصول، واقيم الصلاة قرب مرقد حامي الصلاة". 
 
مدينة الحب
تعلمنا منذ أنْ ولج حب الحسين في قلوبنا، أن نرسم حياته بمخيلتنا، ألوانا وطرقات، نظرة تحتفل بها الطرق كلما اغلقت، ورغم مرافقة الدموع لهذا المسير، تجردنا من سلاح الظلم في كل خطوة، استطعنا أن نتحرر من قيود الظلام والظلم، فما اقدس قدوتنا المتمثلة بامام الصلاح، تلحف كاظم رحيم (28 عاماً) برداء الطاعة ليحدثنا عن امامه ويقول:" كل سنة أقرر أن اعتكف في المنزل وألا أسير مع الزائرين نحو كربلاء المقدسة، وتعددت الاسباب، فمن العارض الصحي الى أوضاع البلد الصعبة، حتى ظروف عملي الذي يمنعني من اداء هذا العشق، الا انني ذهبت!، فكلما اقتربت هذه الايام من بدايتها، تحركت اقدامي بلا ارادة نحو ذلك السبيل، وما أن تتحرك اولى خطواتها لا احد يستطيع ايقافها، ان تصبو نحو ذلك الالق الحسيني بلا حواجز، وتنطلق بقوة صوب طريق الحق بلا ظنون، فمن يا ترى له الحق في هذا العشق غير سيد العاشقين، غير امامي الحسين عليه السلام".
 
حناجر الهيام
لم يقف هذا المسير على الاقدام فقط، بل صدحت تلك الاصوات في حب ابي الاحرار، واعتنقت صداها اجواء الحماس، يحدثنا صاحب احد هذه الاصوات، المنشد الحسيني السيد حسنين الموسوي ويقول: "في هذا العام وفي هذا الوضع المتأزم حيث انتشار فيروس كورونا أمعنا النظر باتجاه خدمة سيد الشهداء (ع)، حيث كان للمنبر الحُسيني الصدى الواضح لتطبيق توجيهات خلية الأزمة، وتوجيهات المرجعية الدينية العليا، اذ أثبتوا خدام الإمام الحُسين (ع) لكل العالم مدى التزامهم بالتباعد الاجتماعي، والالتزام بجميع تعليمات الوقاية الصحية من أجل إقامة المجالس الحسينية في شهر المحرم الحرام، وكان الدور البارز للمنشدين الحسينيين الأخيار، الذين صدحت حناجرهم بالقصائد الهادفة، نحو التقدم بالمسيرة الحسينية رغم انتشار الفيروس، وجعلوا من المنبر الحُسيني أداة لبث الوعي الصحي لعامة الناس، اذ إن هذا ديدن خدام سيد الشهداء (ع) الأصلاء، كون المنبر الحُسيني هو منبر الحق لكل الأزمان، وعلى مر التاريخ فمن خلاله تنطلق فكرة الوعي، ومن خلاله تقوم الثورات، ومن خلاله نرتقي في حياتنا نحو السلام الحقيقي للبشرية، وأنا بدوري كمنشد حُسيني، أُقدم نصيحتي لجميع من يرتقي المنبر الحُسيني، أن يكون على قدر المسؤولية وأن يكون دقيقا في طرح القصائد التي تنمي فكر المجتمع نحو الأفضل، من خلال القصائد التوعوية، والقصائد التي تبث هدف القضية الحُسينية، وهي رفض الظلم في كُل مكان وزمان وبث السلام لجميع المخلوقات".
 
مقعد الأمل
تتلاعب المشاعر في كل دقيقة وانت تدنو صوب مدينة الشهيد، فمن رؤيتك لعجائز محدبي الظهر وهم ينطلقون كما النسمات ببطء وهم يتبعون الزائرين، اما سلام فالح (32 عاماً) فكان يزحف معهم بعربته بسلاسة ويقول:" لم تمنعني اصابتي باطلاق ناري بعد ان جعلني مقعداً منذ 20 عاماً ان اؤجل هذا المسير، كان عشقي هو عدم استسلامي، وما كان امامي الا املي في النهوض مجدداً من على هذا الكرسي المدولب، فهو مأمولي في استحصال قوة السير على قدمي مجدداً، وها انا انطلق في كل سنة بهذه الايام نحو طريق الخلاص، متوجهاً نحو سيد الشهداء لأدعو الله بقربه وشفاعته، وكلي امل ان امنياتي ستتحقق في يوم من الايام، لأعود مرة اخرى لمرقد الامام الشريف ولكن هذه المرة وأن أمشي".
 
صور براقة
لم يكن فقط التحضير للمسير هو اهتمام الجميع، فقد اعطت منابر الحق صوتها لبث الاصلاح اسوة بسيدهم الحسين عليه السلام، الشيخ عقيل الدراجي احد الصادحين بهذه الاصوات النقية يقول: "ابدع الموالون هذه السنة في إقامة مراسيم عاشوراء في ظل جائحة كورونا، خلافا للاعوام السابقة، حيث أعطت هذه المراسيم صورة واضحة وجذابة وعالية الدقة من حيث التنظيم، في ظل الوقاية المطلوبة التي وجهت بها المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف، والجهات المختصة الطبية، من قبيل التباعد الاجتماعي والتعقيم وغيره، اعطت هذه السنة في عزاء الحسين عليه السلام صورة براقة للتنظيم والابداع، وصورة زاهية لاهتمام الناس في ايصال الرسالة الرائعة لاقامة المجالس دون الغائها، اذ كانت المجالس عفوية ومبدعة ومنظمة".
 
النجاة للجميع
لم يكن طريق الحق حكراً على فئة عمرية محددة، او جنس معين، فقد ترى كبيرا وصغيرا، غنيا وفقيرا، رجلا وإمرأة، وفودا وحشودا تسلك الطريق نفسه كما فروع الانهر، لتلتقي بعد ذلك معاً، يساندون بعضهم البعض، ويقطعون المسافة بلا ملل، يقاومون حر الصيف، بحرارة مصيبة عزائهم بامامهم. الطفل بارق حسين(12 عاماً)، يحدثنا بفرح لنيته بأنه سيذهب هذه السنة كما قبلها لاحياء زيارة اربعينية الامام الحسين عليه السلام مع والده، ويقول: " لقد تحداني والدي بأنني لا استطيع الاستمرار، فالطريق طويل جداً من بغداد الى كربلاء، والمسافات لا يتحملها الذي بعمري، الا أنني فزت بالتحدي في السنة السابقة، وحتما سافوز هذه المرة ايضاً، لا لكونني اعتبر هذا الطريق لعبة ما، ولكنني قد اكتسبت القوة والسماح، فقبل ذلك قدوتي امام التقى والاصلاح، فكيف لا اقتدي بقوته وحكمته، ومهما اختلفت الاعمار والاجناس، فسفينة النجاة لكل من يريد أن يركبها".
 
من شهيد الى شهيد
الموت حق، والشهادة خلود، هذه هي المفاهيم والتشريعات المؤكدة في حياتنا هذه، انما يبقى ذلك الانسان وما قد خلف في عالمه هذا، ام حسن (45 عاماً)، تحدثنا عن مفهوم الشهادة وتقول:" لقد اعتدت أن أحيي زيارة الاربعين مع ولدي حسن في السنوات السابقة، ورغم استشهاده في احدى المعارك ضد عصابات داعش الارهابية، الا أن هذا الامر لم يمنعني من اصطحابه معي هذه المرة ايضاً".
وما أن رأت ملامح الاستغراب والتعجب على ملامحنا، الا وقد أخرجت إحدى الصور، لتضمها الى صدرها وتقول: " او لم يقولوا ان الروح موجودة رغم غياب الجسد، لذلك ان روح ولدي معي، وعندما اضم هذه الصورة نحوي، استطيع الاحساس بوجوده، لذلك ساحملها عند مسيرتي نحو سيد الشهداء، عسى ان يلتقيا الشهيدان معا عند مليك مقتدر".