الكاتب الذي تمكَّن من تركيع امبراطوريَّة

ثقافة 2019/01/11
...

ميخائيل سكاميل
ترجمة: انيس الصفار   
عندما انهار الاتحاد السوفييتي في العام 1991 طرح الباحثون والمطّلعون جملة من الاسباب التي أدت الى ذلك الاخفاق: الاقتصاد .. السياسة .. الجيش .. بيدَ أنّ فئة قليلة خطر لها ان تضيف سبباً رابعاً قد لا يلتفت اليه لأول وهلة وهو فقدان النظام مصداقيته.  بدأت هذه العملية، التي يصعب حسابها بمقياس، في العام 1956 يوم ألقى رئيس الوزراء "نيكيتا خروشيف" ما يُسمّى "كلمته السريَّة لقيادات الحزب". في تلك الكلمة شجب خروشيف عمليات التطهير التي قام بها "جوزيف ستالين" وكشف رسمياً عن وجود نظام للسجون يعرف بالغولاغ. بعد ذلك بفترة قصيرة  سمح "بوريس باسترناك" بنشر روايته المتكتم عليها "الدكتور جيفاكو" في الغرب ليحدث خرقاً جديداً في الستارة الحديدية. في العام 1962 تسببت المجلة الادبية "نوفي مير" موجة من الاثارة بنشرها رواية تدور احداثها في سجون الغولاغ لكاتب مغمور اسمه " ألكسندر إيساييفيتش سولجنيتسين".
تلك الرواية، وعنوانها: "يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش"، اجتاحت البلد، ومن بعده العالم، اجتياح العاصفة. بلغة نثرية جذابة واضحة استعرضت هذه الرواية احداث يوم واحد في معسكرات العمل لرجل بسيط ينوء صابراً صامتاً تحت صنوف من الظلم لا تنتهي. كان السرد يتأجج التهاباً حتى بدا لكثير من القرّاء السوفييت وكأنّ الرقابة الحكومية قد تخلّت ورفعت يدها.
لم يكن سولجنيتسين شاباً مبتدئاً، فهو مولود قبل مئة عام من يومنا الحاضر في 11 كانون الاول 1918، اي بعد الثورة البلشفية بأربعة عشر شهراً، لذا كان عمره في الواقع من عمر الدولة السوفييتية وقد عاش وخبر كل مرحلة من مراحل تطورها. في شبابه وخلال حياته الجامعية غمرته موجة النشوة الثورية التي جاءت بها التجربة الشيوعية وآمن كالمحموم بكل جدليات الماركسية اللينينية، وابان الحرب العالمية الثانية خدم في صفوف الجيش برتبة آمر كتيبة مدفعية وكرّم بوسامي شجاعة.
بيدَ أنّ مستقبله المهني الواعد تلقى ضربة قاصمة شرسة عندما اعتقل في شهر شباط 1945 بتهمة ممارسة نشاطات معادية للاتحاد السوفييتي، وبعد محاكمة سريعة حكم عليه بالاعمال الشاقة لمدة ثماني سنوات في سجن الغولاغ. ما هي جريمته؟، كانت انتقاد ستالين والجيش السوفييتي في خطابات كان يتبادلها مع صديق له من ايام الدراسة يحارب في جبهة أخرى.
 
محظور من النشر
هذا الانقلاب المأساوي في قدر سولجنيتسين قذف به الى مهاوي اليأس، ولكنّه في الوقت نفسه فتح عينيه على الخاصرة الرخوة للشيوعية السوفييتية وأعطاه لمحة عن عالم الرعب والاكاذيب الذي مكّنها من الاستمرار طيلة هذا الزمن. كان حينها قد ألّف عدداً من القصائد والقصص ورواية لم تكتمل، معظمها تصب في مواضيع الحماس والوطنية، ولكنّه الآن عقد عزمه على تكريس ما تبقى من حياته للكتابة وفضح الآلة الهمجية التي تعمل قتلاً وتشويهاً (كما اكتشف لاحقاً) بالملايين من أمثاله.
بعد نشره قصّتين أخريين يتركّز موضوعهما على محنة الريفيين البسطاء حظر الرقيب أعمال سولجنيتسين وأدرج اسمه في القائمة السوداء، بيد أنّه تمكّن رغم هذا من اكمال روايتيه الكبيرتين اللتين كان مستمراً في العمل بهما والمأخوذتين عن سيرة حياته، وهما: "الدائرة الاولى" و "ردهة السرطان". تدور أحداث رواية "الدائرة الاولى" عن مجموعة من السجناء المميزين، ومن بينهم سولجنيتسين نفسه، الذين انتخبوا للعمل في مختبر سري تديره سلطات الغولاغ، في حين تصف رواية "ردهة السرطان" الظروف التي عاشها سولجنيتسين اثناء عمله معلماً في مدرسة خلال فترة النفي الاداري التي فرضت عليه عقب اطلاق سراحه وشفائه من مرض سرطان الامعاء بعد معالجة ناجحة تلقاها في طاشقند.
تميّزت كلتا الروايتان بعمق تحريهما الاخلاقي للمجتمع السوفييتي وطرحهما جرائم الحكومة للمناقشة، ولهذا السبب حظر نشرهما في الاتحاد السوفييتي، بيد انهما سرعان ما هرّبتا الى الغرب، مثل روايتي "دكتور جيفاكو" و"يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش"، حيث انضمتا على الفور الى قائمة الروايات الأكثر مبيعاً.
 
ساميزات
بسبب أسلوبه في تسليط الضوء على معايب الحياة السوفييتية طرد سولجنيتسين من "اتحاد الكتاب" الذي تدعمه وتموّله الدولة، ليصبح خارجاً عن القانون ملاحقاً في بلده. ولكنّه لم يكن وحيداً في ذلك، لأنّ كثيرا من الكتاب الموهوبين المستقلين مثل "فارلام شالاموف" (وهو زميل له من مؤرخي الحياة في الغولاغ)، و"أندريه سينيافسكي" و"يولي دانيل" و"جوزيف برودسكي" كانوا يراوغون الرقابة السوفييتية بمطبوع وضع له نمط وتصميم جديدان اطلقوا عليه اسم "ساميزات". يعتمد هذا النمط اسلوب النشر الذاتي لقصائد وروايات وقصص ودعوات لحقوق الانسان وبيانات سياسية يجري تداولها سراً، اما مطبوعة على الآلة الكاتبة او مستنسخة بطريقة "الستنسل"، وفي كثير من الاحيان كانت نسخ من تلك المطبوعات تسرّب الى خارج البلد. 
مع أواخر أعوام الستينيات صار هؤلاء الكتاب والناشطون المتقدمون يعرفون باسم "حركة المنشقين"، وكان هدفهم هو اشاعة حرية التعبير والتغير السلمي في الاتحاد السوفييتي، وقد أكسبهم هذا جمهوراً عالمياً من القرّاء والمستمعين. عدا الكتاب كانت صفوف الحركة تضم علماء ومهندسين واكاديميين وحقوقيين،  وحتى بعض العمال الساخطين، وكان زعيمهم اللارسمي هو عالم الفيزياء "أندريه ساخاروف" الحائز على جائزة نوبل.
كان سولجنيتسين متعاطفاً متعاوناً مع ساخاروف والمنشقين الاخرين ولكنّه لم يكن متفقاً معهم على الدوام، لذلك بقي متابعاً طريقه الخاص به. في العام 1973 كان لا يزال داخل الاتحاد السوفييتي، ومن هناك ارسل رائعته الادبية المثيرة للجدل "ارخبيل الغولاغ" الى الخارج. هذا العمل اللاروائي كان سرداً فاضحاً كشف الجرائم المريعة التي شملت عمليات سجن وقتل بالجملة لملايين الضحايا الابرياء وبرهاناً على ان ابعاد تلك الجرائم لا تقل فظاعة عن جريمة "المحرقة". هذه اللفتة من سولجنيتسين كانت بمثابة تصدٍّ مباشر وتحدٍّ للدولة السوفييتية ودعوة لطرح شرعيتها للتساؤل ونداء لاحداث تغيير
 ثوري.
رداً على ذلك جرَّد السوفييت سولجنيتسين من جنسيته ونفوه الى الغرب فاستقرَّ في اميركا وقضى معظم سنيه التسع عشرة اللاحقة في "فيرمونت". عندئذ استطاع أن يتسلّم جائزة نوبل التي منحت له في العام 1970، كما تمكّن من كتابة اربع روايات تاريخية ضمن سلسلته الكبرى "العجلة الحمراء"، التي تدور احداثها حول الثورة الروسية وما تلاها.
واصل سولجنيتسين حملاته الهجومية على القادة السوفييت بسبب فسادهم واطلق كثيراً من النصائح ولكن ذلك لم يكن زمناً سعيداً بالنسبة للكاتب، فهجومه المركز لم يعد يحظى بذلك التأثير الذي كان له وهو مقيم هناك، ثم سرعان ما أدى هجومه اللاذع على اميركا والديمقراطية الغربية الى اثارة هواجس مؤيديه الليبراليين في الغرب، كما أضرّت بسمعته في الداخل انتقاداته القاسية لحلفائه السابقين التي أوردها في مذكراته.
 
بطل وسط فوضى
كل ذلك لم يضعف رغبة سولجنيتسين في رؤية النظام السوفييتي ينهار وينتهي، وعندما سقطت حكومة "ميخائيل غورباتشوف" في العام 1991 غمرته بهجة النجاح ونشوة الاحساس بقيام البرهان على صدق تنبؤاته بالكارثة المقبلة. بعد ذلك بثلاث سنوات عاد الى روسيا ليستقبل استقبال الابطال، ولكن ما رآه هناك لم يعجبه. فحكومة "بوريس ييلتسن" لم تكن سوى فوضى، كما لم يستسغ ما رآه من تزلّف النظام للغرب ورغبته الحمقاء لممارسة شكل من اشكال الديمقراطية الغربية. فمن وجهة نظره كان الموقف يتطلب زعيماً قوياً لديه القدرة للحفاظ على النظام الصارم في البلد مع مزيد من الحث على الممارسة الدينية ودعم الدولة للكنيسة الارثذوكسية، فضلا عن إحياء الحس الوطني والعودة الى القيم
 التقليدية.
في العام 2000 بدا كأنّ أمنيته قد تحققت عندما سلم ييلتسن الرئاسة الى رجل يشارك سولجنيتسين توجهاته القومية ويتجسّد فيه مثال القائد القوي، كان ذلك الزعيم هو "فلاديمير بوتين". 
حرص الزعيم الروسي الجديد على استقبال سولجنيتسين في مقر اقامته وطلب مشورته وجعل من هذه المناسبة عرضاً يراه الجميع، وفي العام 2007 منح الكاتب جائزة الدولة نظير نشاطاته الانسانية (وكان سولجنيتسين قد رفض من قبل ان يتسلّم مثل تلك الجوائز من غورباتشوف او ييلتسن).
توفي سولجنيتسين في العام 2008 قبل أن يبدأ بوتين بالكشف عن جوهره الحقيقي من خلال اغتيال معارضيه بدم بارد والعمل على بناء دولة الاستبداد وغزو اوكرانيا والقرم وتقليم أظافر الديمقراطية في الاقاليم المختلفة تباعاً (لعل سولجنيتسين كان سيقر ما اتخذ من اجراءات مع اوكرانيا نظراً لكونه نصف اوكراني بالميلاد، ولكنّه حتماً ما كان سيقر
 الباقي).
 
عن صحيفة نيويورك تايمز