الأربعينيَّة وعطاء الشعب العراقي

ريبورتاج 2020/10/04
...

صباح محسن كاظم
 
في العشرين من صفر عام 61 كانت الزيارة الأولى للصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري الذي عاصر النبي العظيم وكان يسمع ويرى كيف كان نبي الرحمة «ص» يحتضن سيد شباب أهل الجنة ويعرف كل ما قاله بحقه.. وتنبؤ النبي الكريم بشهادة سبطه عندما كان يقبل الحسن بفمه والحسين بمنحره وهو يقول: أحدهما يموت بالسم والآخر بالسيف..
 
لقد كانت زيارة جابر الأنصاري في الأربعينية هي أوّل زيارة لقبر الإمام الحسين (ع) بعد مرور أربعين يوماً من شهادته.
كما ورد ببحار الأنوار يقول عطا مولى جابر: «كنت مع جابر بن عبد الله الأنصاري يوم العشرين من صفر، فلمّا وصلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها، ولبس قميصاً كان معه طاهراً، ثمّ قال لي: أمعكَ من الطيب يا عطا؟ قلت: معي سُعد، فجعل منه على رأسه وسائر جسده، ثمّ مشى حافياً حتّى وقف عند رأس الحسين (ع)، وكبّر ثلاثاً، ثمّ خرّ مغشياً عليه، فلمّا أفاق سَمعتُه يقول: السلام عليكم يا آلَ الله...) من هذه الحادثة التاريخيَّة دأب أهل العراق ودول الجوار ومن كل أرجاء المعمورة بزيارة 
سيد الشهداء..
إن دراسة وتحليل أي ظاهرة تاريخية تتجذر في أعماق الوعي العام لا بدَّ من أسباب مضمرة وظاهرة لديمومة زخمها. لا ريب إنَّ شهادة السبط مثلت انتكاسة كبرى بالإسلام والعودة للقهقري للجاهلية بالسلوك اليزيدي وما ارتكب من حماقات من جيش عمر بن سعد بقطع الأجساد الطاهرة، حرق الخيام، ذبح الصبية، تعريضهم للترويع، ممارسة الوحشية والسادية بقطع الماء عن آل رسول الله ثم أخذهم سبايا على جمال هزل، كل ذلك المشهد راسخٌ بذاكرة أهل العراق لذا يتجدد الإحياء كل عام بشكل أوسع، رغم بطش الأمويين ومحاولة بعض ولاتهم إخفاء معالم القبر كما فعل المتوكل تارة بحرثه وأخرى بمحاولة جرفه بسيل من الماء الذي احتار حول القبر المقدس أو بقطع الأيدي، سمل العيون لمن يزور الحسين وبذات السياق التعسفي سار بنو العباس رغم رفعهم شعارات نصرة آل محمد ويا لثارات الحسين لإنهاء الحكم الأموي، واستمر كل الطغاة على هذا المنهج طوال كل الحقب، فاختزن الشعب بقلبه تلك الأحزان وقدم القرابين تلو القرابين ولم تنقطع الزيارات بأقسى النظم الوحشية كانت الجموع تذهب ليلاً عبر البساتين مبتعدة عن الطرق العامة لتصل ضريح الحسين الشهيد..
 
الأربعينيَّة وإعادة إنتاج القيم
جملة ظواهر على علماء النفس والاجتماع تحديد ماهيتها وسر ديمومتها والدوافع السلوكية لها، فالشعب العراقي يتأهب من أقصاه إلى أقصاه بكل المنافذ الحدودية والبرية والجوية بكل عام لاستقبال آلاف الزائرين حتى وصل الرقم لـ24 مليوناً، وهذا لا يوجد في أي تجمعات بشرية بالعالم. وقد أفرز عدة ظواهر ومعطيات بأرض كربلاء تتجدد بكل عام بأساليب مختلفة بإقامة العزاء، الإطعام، السكن. لذلك الأولى معرفة ماهية الامتداد والتمدد بالأربعينية حين يدرس بأنساق ثقافية لتحليل ماهية الصيرورة التي توظف إنتاج المآثر مستلة الدروس من تضحيات الطف، تجد الكرم، الجود، التآزر تتساوق مع مفاهيم روحية وأخلاقية، وتربوية لا يمكن لأي «قائد» تاريخي أنْ يجمع الحشد المنضبط برؤية موحدة، وهدف سام واحد، نحو ذرى المجد الحسيني، هذا المجد الأخلاقي صنيعة التاريخ الحسيني الباذخ العطاء، كل الرؤى الاجتماعية غير الممنهجة بل الفطرية التي تحفز للعطاء الإنسانيّ المثير للدهشة كونياً كيف تضبط أكثر من 24مليون من دون مشاجرة، التحام، ومشكلة اجتماعية، لذا معرفة الظاهرة اجتماعياً لا بدَّ من التحليل التاريخي للحدث الأربعيني والجموع التي تزحف كل عام غير مبالية بالطغاة والمخاطر، لتشكل أفواجاً وأسراباً مهاجرة نحو سيد الحرية وصانعها بنجيعه الزكي، تلك الأجواء الروحانية الحسينية التي صهرت السلوك الجمعي نحو الانضباط، والانشداد.
ثمة تساؤل ومقولات هل الحرية وجدت في الفكر الغربي أم جذورها إسلاميَّة؟ وللجواب عن ماهية الحرية أولاً: ماهية الاستعباد ومعرفة ثيمة الحرية، ومنها حرية الاختيار في العقيدة بالتوحيد للخالق، وحرية الإنسان باختيار ما يلائم هويته من طقوس واعتقادات من دون الإضرار بالآخر، فالمساواة والعدالة وعدم التمايز العنصري، والطائفي، والقومي، الأسس المشتركة لدى جميع المفكرين الذين يؤمنون بالأنسنة والحرية. بالطبع سبق الإسلام الغرب بمفهوم الحرية من خلال القرآن الكريم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين) (الكافرون 6): حرية الإنسان غير مقيدة، وله حق الاختيار في ما يعتقد ويؤمن، فالجاحد غير المؤمن بوجود خالق للكون، والمتهتك بالفساد والرذيلة شأنه هو، أما اعتقادي كمسلم ولي ديني الذي آمنت به من خلال الأطروحة القرآنية التي جسدها الرسول الأعظم حبيبنا محمد «ص» وأتبعها منهجياً أئمتنا الأقداس قد ارتضيته شريعة كاملة للحياة بكل أبعادها، بعد اليقين بما ارتضاه واختاره ربي ديناً كآخر الأديان المقدسة، وهو سبيل السعادة والتقوى والورع والكرامة والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، نعتقد بمقولاته الفكرية والعقائدية والفلسفية في رؤيته للكون، والوجود.
وكذلك في نص قرآني آخر (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل: (125)، تسويق مفاهيم الحرية ليس بالسيف أو بالاغتيال أو الاعتداء والاجتياح، بل بثقافة جوهرها القيم الهادفة والحوار والدعوة إلى الحق ونبذ التعنت، والتكبر والغرور والإعراض عن الحق.
وعود على بدء النهضة الحسينية هي دافع للحرية، في عالم صاخب بالطغاة؛ يضج بالعنف والاغتيال والسجن والنفي، وما هذه الثورات في الشرق الأوسط وعالمنا العربي (الربيع العربي) إلا محاولة للتحرر من النظم الدكتاتورية والطغيان والاستبداد السياسي. وإذا لم تستثمر الحرية بالشكل الصائب الخشية من الفوضى. فالدكتاتوريات حكمت بالحديد والنار وقمع الحريات كالقدر الكاتم للضغط إن رفع الغطاء. لذا تنظيم الحرية وفق أنساق علمية وحضارية لضبط إيقاع الأحداث القادمة والزيارات المليونية في ظل جائحة كورونا لعدم الانفلات الصحي.
 
كورونا وتحديات الواقع الصحي
لا يمكن لأي إنسان يفرط بصحته دون هدف وجدوى وبالأخص بهذا الوباء الذي اكتسح العالم ووصل إلى الرئيس الأميركي وزوجته وارتفاع الإصابات العالمية لما يقارب الـ 50 مليونا، لكن عقيدة الإيمان العراقي غيرت المعادلات ومن 1 محرم لليوم يتوافد معظم المؤمنات والمؤمنين للزيارة مع أخذ الاحتياطات بلبس الكمامات والكفوف واستخدام المعقمات ومحاولات قدر الإمكان الابتعاد عن الزخم لتقليل الإصابات.. ولو كان هذا الطقس العاشورائي الأربعيني بأي بلد لتوقف في ظل تلك الجائحة التي اجتاحت الشعوب، لكن صرخة الطف المدوية بطلب الحريّة، والإصلاح، هي المنهج بلا «للظلم» لا «للاستئثار» لا «لقمع الحريات» لا «للفشل الإداري» لا «لنهب الثروات» هي المحرك لتلك الجموع الزاحفة نحو شمس كربلاء، لذا تبقى الطف والأربعينية نبراساً للأمم والشعوب في طلب التحرر والانعتاق من ربقة العبودية.
 
الحرية صناعة حسينيَّة
(لا) الحسين وعدم المهادنة والرضوخ للظالم تحفز كل غيور كل وطني كل ثائر على التمرد على الطغاة، لذا نجد رفض التطبيع الصهيوني بعد إعلان الإمارات والبحرين ودول لضياع الحق الفلسطيني وإنهاء القدس التاريخية للأبد، السؤال كيف رفض كل الوطنيين والأحرار بتلك الدول المُطبعة نهج حكامهم وتعرض ناشطات وناشطين ومبدعات ومبدعين للمضايقة. بالطبع من الحسين يتعلم الإنسان الصمود والمضي بطريق الحق ورفض الإملاءات والشروط التي لا توافق العقل والروح والقيم والمبادئ.
الحرية تأخذ بالتضحية والصبر على المكاره ولا تمنح كهبة دون أي ثمن، فيذكر صاحب كتاب الحدائق الوردية 3- (ولما اضطر عليه السلام إلى محاربة القوم وعبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السلام، ورتبهم مراتبهم، وأقام الرايات في مواضعها، وعبأ أصحاب الميمنة والميسرة، وقال لأصحاب القلب، اثبتوا........) وقائد النهضة الحسينية يواجه الساعات الصعبة والحرجة ومكاره الدهر وعادياته اللئيمة التي ترفع الظالم لمكان 
لا يستحقه. 
فقد خطب الإمام الحسين فيهم (تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أفحين استصرختمونا ولهين متحيّرين، فأصرخناكم موجزين مستعدّين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا! وحششتم علينا نار الفتن، جناها عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم،........) إنَّ هؤلاء الاوغاد الذين اضرموا الحرب على آل البيت وسفكوا الدماء الطاهرة هم أحفاد أولئك الذين قاتلوا ببدر والاحزاب والذين شنوا الحروب والوقائع ضد رسول الله –»ص» (قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً).. لبئس ما فعلوا ليصبحوا لعنة في أحشاء التاريخ الى يوم يبعثون ليغلوا بالاصفاد في محكمة العدل الالهية...
 
التأثر الجمعي
الجموع الزاحفة من كل فج صوب شمس كربلاء بأربعينية الحسين الشهيد تجدد الولاء لحب العراق والوطن رغم ما يمر من محن بكورونا وانخفاض أسعار النفط وشلل الحياة الاقتصادية سواء بالعراق أو بدول الجوار، مع ذلك الطقس الجماعي الشعبي يزاول كالمعتاد تأدية الزيارة بانسيابية ومشاركات بمختلف المجالات الثقافية في أرض كربلاء والطرق المؤدية. لا ريب إنَّ كل القنوات الإبداعية -الحسينية- تصب بخدمة القضية والثورة والنهج؛ فالفكر والبحث والتحليل والكتابة، التشكيل المسرح، الخطابة تسهم ببلورة الوعي واستشفاف واستشراق معالم -النهضة الحسينية- والخطابة تسهم بشكل فعال ببناء الوعي المفاهيميّ والقيميّ للملحمة المقدسة وتخاطب العقل الجمعيّ بكل تنوعاته الإثنية والقومية والعقائدية لأنها مدرسة تنهل من المعين العذب للسيرة المعطرة لآل البيت الأطهار، لذا يتوجب إتقان فن الخطاب والحجاج بالاستدلال العلميّ والمنطقيّ ومخاطبة العقل بالقيّم الجمالية للحرية والمنهج الحسيني؛ أما الرادود الحسيني الذي يعبر عن الأسى في الوجدان، والضمائر، ليتفاعل معه الحضور بشكل وجداني، وفق طقس خاص، فيشارك به الصغير والكبير لمواساة آل بيت النبوة بقصائد تخلدهم سواء كانت مدونة بالشعر الفصيح أو الشعبي؛ ولها شروط في القراءة من خلال حسن الأداء وجمالية الصوت والتأثر والتفاعل مع المؤدين لهذا الطقس المعبر عن الولاء والانشداد والحب والذوبان بإمام الأمة وسيد شباب أهل الجنة.
 
إثبات الولاء العراقي
الذي يرى تلك الجموع الحسينيَّة الزاحفة صوب المجد وتجديد العهد يتيقن بأنَّ الولاء العراقي تغذيه الأمهات الطاهرات من أثدائهن لأبنائهن، وهو تأكيد للتمسك الحقيقي بقيم الدين الحنيف والمضي على الحق رغم هول الكورونا، بهذا الولاء نسأل الله رفع البلاء.
لقد بين القرآن الكريم في محكم آياته الافتتان في الدنيا بين نمطين من السلوك الانساني ((ماكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)) آل عمران 179
يذكر العلامة الاراكي: (وقد كانت الفتن مريرة وكثيرة نجا منها أُناس قليلون ثبتوا على الحقّ ووفوا لله ورسوله بالعهد والميثاق وهم الذين ثبتوا على طاعة الإمامة الإلهية والوفاء لها في كلّ الظروف والأحوال وكان أبرز مصاديق هذه القلّة الوفية بالعهد أصحاب الإمام الحسين «ع» فقد ثبتوا على العهد حتّى النفس الأخير فقضوا نحبهم مضمّخين بالدمّماء أعزّاء قاهرين غير مقهورين».
يذكر السيد سعيد العذاري (لقد امتاز إعلام جبهة الإمام الحسين «ع» بالصدق والصراحة والواقعية، ولم يمارس الخداع والتضليل ولا اللف والدوران، وإنما ركز على وقائع معلومة للجميع، لأنَّ أحد أهداف الامام الحسين «ع» هو الاصلاح، ولا يتحقق الاصلاح إلا باصلاح جميع جوانب الحياة ومنها الاعلام ليكون منسجماً مع الثوابت الأخلاقية...).
إن خلود السمفونية الحسينية على مدى الدهور والأزمنة والأيام يتأتى من وعي صاحب الثورة الثائر الشهيد بأن الزمن كفيل بنصرة الحق حتى ولو بعد حين، لتصبح نبراساً لكل الثائرين بدروب الحرية المعبدة بطريق الشهادة. واليوم عالمنا يعج بالثورات المطالبة بالحريات، والانعتاق من الطغاة والمستبدين، والشباب الثائر في كل مكان يهتدي بالمنهج الحسيني من أجل الحرية.
 
فشل سياسة الطغاة
كل الدعوات الضالة المضلة التي تمارس من أفراد أو توجهات ما ممن تُحارب مبادئ الإمام الحسين «ع» وأهل بيته من الأولين والآخرين، فقد فشلت فشلاً ذريعاً من معاوية ويزيد والحجاج والسفاح إلى أكبر مجرم عرفته البشرية -صدام- وكل طغاة الأمة الذين يتساقطون كل يوم ويخسرون عروشهم بسبب عدائهم لشعوبهم ولآل محمد، بينما المجد الحسيني يتجلى سنوياً بأيام محرم والتدفق المليوني بالزيارات وبالأخص بالعاشر والأربعينية بالزحف من كل الاتجاهات صوب كعبة الحرية لتجديد الولاء، ظاهرة تستحق الاحترام والإعجاب والتفكيك والأسئلة المتجددة حول الأمن الصحيّ والغذائيّ والخدميّ الذي لا ينقص أي زائر وافد من المدن والعالم.. إنها الملحمة السنوية التي 
تزداد توهجاً.