أعداد النخيل في بابل تتناقص.. فهل من مجيب؟

ريبورتاج 2020/10/10
...

  محمد عجيل 

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً             بالطوب يرمى فيعطي أطيب الثمر 

 
هكذا هي النخلة كبرياء وعزة وعنفوان، هي التي الهمت الشعراء، فاخذوا ينشدون لها أجمل الاغاني الشعبية على لسان صوت الجنوب الشجي حسين نعمة (نخل السماوة يكول طرتني سمرة) فالنخلة شامخة بعطائها، صبورة على إيذائها، تلقي بظلالها على الجميع وترمي ثمارها على الصديق الذي يحضنها تارة، وعلى العابثين بها تارة اخرى.
المصدر لأول
يعدُّ العراق من اقدم بلدان العالم بزراعة النخيل، ويعود تاريخ وجود اول نخلة الى مدينة "اريدو" التاريخية في جنوب البلاد قبل ٤آلاف سنة ق. م، فضلاً عن الإحصائيات الرسمية التي تشير الى أن العراق كان يتصدر قائمة أعداد النخيل عربياً في العقدين الستيني والسبعيني، إذ وصلت اعداد هذه الشجرة المباركة الى قرابة خمسين مليون نخلة، تتوزع غالبيتها في مناطق الوسط والجنوب، حيث المياه والأرض الخصبة وحرارة المناخ، وتنتج انواعاً مختلفة تصل الى ستمئة نوع، من ابرزها (الخستاوي والزهدي والبرحي والخضراوي والبربن والمكتوم والساير والديري والحلاوي)، لكن تلك الاعداد شهدت تراجعاً مخيفاً، وصل الى النصف تقريباً، لاسباب تتعلق مرة بالحروب التي شهدتها البصرة، وهي واحدة من اكثر المناطق العربية كثافة بزراعة النخيل، ومرة اخرى بعمليات التجريف التي تعرضت لها البساتين، نتيجة الزحف السكاني والصناعي، في ظل غياب الاهتمام الحكومي في حل مشكلات السكن، ولابد من الإشارة هنا الى أن التمور العراقية كانت تعد من افضل التمور، وتصدر سنوياً آلاف الأطنان الى المنطقة العربية وأوروبا الشرقية، كما شكلت مادة اولية للكثير من الصناعات المحلية مثل الدبس وبذلك اسهمت في رفع دخل الفرد السنوي.
 
المجلس الزراعي الأعلى
 يقول الخبير الزراعي مهند رحيم "ان العراق كان يولي اهتماماً كبيراً بالنخلة، لكونها مصدراً اقتصادياً ومعيشياً، وأتذكر أن هناك خططاً كانت توضع في بداية الموسم الى أن يتم تصدير التمور الى الخارج، تتضمن منهاجاً في كيفية حماية النخلة، عبر تنظيف ماحولها من أعشاب ضارة، وادخال اضافة بطريقة سقيها ومن ثم كيفية تلقيحها يدوياً، او من خلال الطائرات التي كانت تجوب جميع مناطق البساتين لمكافحة الأمراض التي تتعرض لها النخلة، ومن ابرزها حشرتي (الحميرة والدوباس).
 
حرب اكتوبر
واضاف رحيم "كان هناك مجلس يسمى المجلس الزراعي الاعلى، يتألف من ممثلين عن وزارة الزراعة والصناعة والتجارة والري والمالية، يأخذ على عاتقه تنفيذ خطة استلام التمور من الفلاحين من خلال الشركة العامة لتصدير التمور، ومن خلال هذا الجهد المتواصل تمكنا من إيصال التمور العراقية الى الكثير من المناطق، حتى دخلت ضمن المجهود الحربي ضد الكيان الصهيوني في حرب اكتوبر 1973حينما وزعت بين مختلف قواطع العمليات العسكرية في سوريا ومصر، ولكن الاهمال الذي اصاب النخلة لا يمكن أن يعد ويحصى، ما جعلها الشجرة الاكثر بؤساً وفقراً في العطاء".
 
جهود بطيئة
لم يخل العراق من بعض المحاولات لاحياء النخيل، رغم انها توصف بالجهود البطيئة من قبل المعنيين، ففي المحاويل سعت حكومة القضاء الذي يقع شمال مدينة الحلة، الى دعم وتفعيل محطة تحسين فسائل النخيل التي انشئت في منتصف العقد الثمانيني من القرن الماضي، يحدثنا قائممقام القضاء وصفي الشمري عن هذا الجانب ويقول: "ان المحطة تعد واحدة من اهم محطات زراعة فسائل نوعية من النخيل ربما غير موجودة في العالم العربي، كما ان المحطة تشهد اقامة دورات إرشادية للمزارعين، وتطبيقات عملية لطلاب كليات الزراعة في الفرات الاوسط، وهي مرتبطة ادارياً ومالياً بالهيئة العامة للزراعة، لكننا على تواصل مع ادارتها لغرض تذليل العوائق".
وأشار مدير المحطة علي اسماعيل الى أنَّ "حكومة بابل تعتقد أنَّ المحطة تابعة لوزارة الزراعة، وليس من صميم واجباتها رغم الدور الذي تلعبه في تطوير قطاع النخيل". ولفت الى أنَّ "العمل فيها يحتاج الى توفير متطلبات كثيرة منها المكافحة والنقل وأجور العمال والتنظيف".
 
أمراض فتاكة
وأكد المزارع بوهان عبد الزهرة أنَّ "الدوائر الزراعية لم تعط للنخلة ذلك الاهتمام في مكافحة الأمراض والقوارض، وتوفير المياه الكافية للسقي، رغم الندوات والمؤتمرات الإرشادية التي تعقدها بين الحين والآخر".
وأضاف عبد الزهرة أنَّ "التمور العراقية تأثرت سلبياً بسوق المنافسة مع دول الجوار، حتى أصبحت تحتل مرتبة متأخرة في قائمة المستهلكين المحليين، بسبب ارتفاع سعر الشراء مقارنة مع التمور الإيرانية المعلبة، اضافة الى الأمراض التي تفتك بها، ما يتطلب اعادة النظر بامكانية دعم الصناعات التحويلية للتمور، سواء من قبل القطاع الخاص أو الحكومة".
بينما شدد المزارع عباس عبد راضي "على ضرورة وضع خطط تسويقية تخدم تطلعات الفلاحين في الحصول على مبالغ البيع بأسرع وقت ممكن، وتقليل الروتين أثناء التسلم، ومحاربة الرشوة التي تتحكم في تقييم نوعية التمور وتحديد أسعارها".
 
سمعة التمور
كما تحدث المهندس مصطفى صاحب معمل لصناعة الدبس في مدينة الحلة عن الصعوبات التي تواجه الصناعات التحويلية التي تتعلق بالتمور، ومنها ارتفاع أسعارها في السوق المحلية، نتيجة خضوعها للمضاربة من قبل التجار، اضافة الى ارتفاع سوق الايدي العاملة، وانقطاع الكهرباء، وزيادة ضريبة العمل، وعدم وجود حماية حكومية للمنتجات العراقية، واضاف "ان انتاج كيلوغرام من الدبس يكلف المنتجين ثلاثة آلاف دينار، في حين يباع الكيلوغرام منه من انتاج دول الجوار بالف دينار، والامر الاخر الذي أراه ضرورياً في تدخل الحكومة، هو رفض استخدام التمور كعلف للحيوانات، لان هذا الامر خلق استخفافاً بالمحصول، وتحويله من الاستهلاك البشري الى الاستهلاك الحيواني، ما اثر سلباً في سمعة التمور العراقية في الخارج، وهذا ما لمسته شخصياً عند مشاركتي في معرض دبي للتمور الذي عقد في عام 2011".
 
غياب التسويق
 ويرى مدير زراعة شعبة الهاشمية المهندس عليوي الجبوري "ان إلغاء الشركة العامة لتسويق التمور التابعة لوزارة التجارة، اثار مشكلات عدة، اذ توقفت عمليات التسويق منذ عام 2009، ما تسبب في خزن المحصول من قبل اصحاب البساتين للبحث عن أسعار ملائمة في سوق القطاع الخاص ما عرضه للتلف والتعفن ومن ثم بيعه كعلف حيواني، او الى مصانع المشروبات الكحولية".
وشدد الجبوري "على ضرورة استعادة نشاط الشركة من جديد في كل المحافظات، لكونها نظاماً ادارياً قائماً بملاكاتها الإدارية، قادرة على وضع خطط التسويق السنوية، والتنسيق مع وزارتي الزراعة والمالية، اذ دفع الاهمال الذي اصاب عملية التسويق ورعاية النخيل الفلاحين الى البحث عن جهة تدافع وتطالب بحقوقهم، لكن اللوم يقع على الفلاح، لانه لا يتعامل مع التسويق الحكومي، كخطة سنوية ضامنة، وانما يذهب الى السوق الخاصة، لكي يبحث عن أسعار تناسبه، اي انه يسوق المحصول اذا كانت أسعاره متدنية في السوق المحلية".
 
إهمال حكومي
في اروقة اتحاد الجمعيات الفلاحية في بابل، كان هناك حوار هادف، يجرى في كيفية ارغام الحكومة للاستماع الى صوت الفلاح، وانقسم الحضور الى رأيين، فهل سيكون من خلال الضغط الجماهيري (التظاهرات) ام من خلال حوارات مع الحكومة المحلية من اجل الوصول الى صيغ ترضي الفلاح والجانب الحكومي.
اذ يبين رئيس الاتحاد كاطع موسى "ليس من الضروري أن تفعل الحكومة خطة تسويق التمور من الفلاحين، لان ذلك يمكن تعويضه بالسوق الخاصة، لكن عليها أن تهتم بالنخلة كشجرة مثمرة اكدت دورها الغذائي قبل آلاف السنين، اذ لا يمكن أن تبقى البساتين دون مكافحة للأمراض، التي تعد واحدة من اهم قواعد ضرب المحصول سنوياً، وتكلفه الخسائر التي تصل الى اكثر من (890 الف طن) سنوياً، اضافة الى إيقاف عمليات التجريف، وتفعيل قانون الاصلاح الزراعي، الذي ينص على عدم تحويل البساتين الى مجمعات سكنية وصناعية".
مؤكداً أنَّ "أعداد النخيل العراقي تشهد تناقصاً مخيفاً، ولابد من تدخل الحكومة عبر دعم مشاريع التنمية، من خلال تقديم سلف مصرفية، وتوزيع مساحات من الاراضي، سواء في صحراء النجف والسماوة وبابل، للشباب العاطلين عن العمل، اذ ان أغلبيتهم من خريجي كليات وإعداديات الزراعة، اذ كانت هذه المبادرات مفعلة في العقود الماضية ولا نعرف اسباب توقفها".
وحذر موسى من مغبة الاستمرار في إهمال التمور كمحصول ستراتيجي، يمكنه أن يسهم في زيادة الدخل القومي في ظل اعتماد العراق على النفط فقط، في تغذية الموازنة العامة، مطالباً بتعميم تجربة العتبتين المقدستين في كربلاء، في احياء النخيل من جديد على اعتبارها من التجارب الناجحة في زراعة النخيل.