من تقانة الشعر الى أناقة القصة

ثقافة 2019/01/12
...

أنمار رحمة الله
 
 
تكمن قوة القصة القصيرة في أنْ تتوافق في الشكل من نبض الحياة وروحها العصرية. والسؤال الذي مازال يطرح، هل القصة أقرب للشعر أم للفنون السردية الأخرى (الرواية مثلاً)؟، والحقيقة أنّها أخذت من الجميع، فمن الشعر - مثلاً - أخذت الوحدة والتكثيف والغنائيّة. 
وما يخص مقالتي اليوم هو مجموعة (خزانة النسيان) للشاعر العراقي (باقر صاحب). 
الصادرة في المؤسسة العربية للدراسات والنشر /2018. المجموعة تتكوّن من قسمين، القسم الأول قصص قصار، والقسم الثاني نصوص قصصيّة أو أقاصيص قصيرة جداً. يضع الشاعر نفسه هنا أمام رهان مهم، للتحول المهم على مستوى التقنية والرؤية والخطاب والفنية، من الشعر إلى السرد، فهل كانت القصة محطة الشاعر الأكثر وفاءً لتقنيته الأولى في الكتابة؟، بالطبع لو أخذنا بنظر الاعتبار الخصائص المشتركة ما بين الشعر والقصة، لوجدنا أن الأخيرة أقرب للشعر منها للرواية. والسبب كما قلت هو اشتراكها مع الشعر في أهم الخصائص الفنية (اختزال – تكثيف – وحدة)، واختلافها عنه في السرد. لهذا نجد أن (قصّة الشاعر) عبارة عن نص مراوغ وذكي، أخذ الشاعر من تقانة الشعر ما يُظهر القصة بشكل أنيق لغةً ورؤيا في الإشارة الأولى في المجموعة القصصيّة، يشير القاص باقر صاحب في مقدمة مختزلة، أن نصوص المجموعة هي خلاصة تجربة كتابية ما بين 1998 – 2018. 
وهو بهذا الإشارة يبيّن أنّه قد أقصى الكثير من النصوص، واكتفى بما يستحق النشر والظهور. ولمعرفتي الشخصية بالكاتب من خلال عمله الطويل في صفحة "الصباح الثقافية"، عرفته قارئاً ذكياً للفنون السردية، فهو يمتلك أيضاً مجسَّ الناقد والمتذوّق.
 وهذا ما يضيف إشارة إلى أن القاص كان يشتغل بتأنٍ وخفية خلال هذه المدة الفائتة، ليظهر بتجربته الأولى في كتابة القصة القصيرة، بسمعة وشكل يليقان بسمعته في مجال الشعر والكتابة الصحافية. 
كما ان التحول الكتابي يحتاج إلى فترة طويلة، وكما أعرف أن القاص قد تخطى مرحلة الظهور والانتشار وصولاً إلى ترصين التجربة وتأصيلها في مجال الشعر، وقد فاجأنا كذلك في مجال القصة. وكأي عمل أدبي أول لكاتب، نرى أن المجموعة قد أخذت على عاتقها المصافحة الأولى مع القارئ، فهو لم يأتِ بما يُسمّى الآن (الكتاب القصصي) او كما شاء لي أن أطلق عليه (رواية قصصية) أو كما يُسمّى أيضاً (متوالية قصصيّة). القاص هنا جاء بعدة قصص، متباعدة من حيث الزمن الكتابي، ومختلفة في الشكل والثيمة والمعالجة والأسلوب، وهذا عائدٌ إلى تباعد فترات كتابة القصص، ولم تكن هناك قصديّة في إنشاء كتاب قصصي موحّد. ينتقل بنا القاص من الرومانسيّة إلى الغرابة ثمّ الواقعية الجديدة والواقعية السحرية، في تعبير ولغة نابضة ابتعدت عن الوقوع في فخ الشعريّة الفائضة عن الحاجة، بل كانت لغته متزنة رشيقة وسلسة، لتعبر بشكل أفضل عن الفكرة والحدث.
قصص القسم الأول (حب سيّابي – برزخ من كوابيس – شيطلائكية – هاملت في غرفتي- حدّاد في مصعد) وأخريات، وصولا إلى القصة الأطول في الكتاب (الأب في لعنته الأنيقة). 
مثلت هذه القصص أساليب متنوعة وأجواء مختلفة - كما قلت - من الواقعية إلى السحرية والغرابة. ما يحسب للقاص في نتاجه القصصي، تلك اللغة الجميلة والوصف البياني المختزل، فهو لم يوسّع من رقعة الشعر على حساب السرد، بل أخذ من الشعر وزيّن به وجه القصص.
في قصص القسم الثاني، والذي عنون الكاتب القسم بـ (قصص قصيرة جداً)، نجد نصوصاً حديثة أمثال (أعظم القصص – مصحح – الحسنيان – منامة – مدن سفلى – صيد – بعد أن نال الحرية – تشابه...) وباقي قصص القسم، وفيها مزية فاعلة وواضحة، أن القاص أستخدم الحدث في بداية كل قصة، من دون وصف أو إخبار عن توصيف مكاني أو زماني، بل بدأت أغلب القصص بأفعال (كان – آثرت – أعتاد – يركض -  يبكر...) وهذه الأفعال ماهي إلّا إشارة واضحة على بداية القص بفعل (حدث) معين.