البصرة: صفاء ذياب
رحل يوم الاثنين الماضي الفنان التشكيلي سلمان الشهد، الفنان الذي كان يمثّل مثلث البصرة التشكيلي بمشاركة الفنانين فيصل لعيبي وصلاح جياد، الشهد الذي قدّم أعمالاً تشكيلية على مدى أكثر من خمسين عاماً، فضلاً عن تصميمه للمجلات وأغلفة الكتب، رحل بعد صراع طويل مع المرض، وكان آخر لقاء له مع الجمهور العام الماضي حينما أقام معرضه الفني الأخير على قاعة جمعية التشكيليين العراقيين في البصرة، وعرض فيه حينها أكثر من خمسين عملاً فنياً خلاصة تجربته خلال السنوات الماضية.
وأشارت جمعية التشكيليين في البصرة إلى أن "الفنان الراحل الذي ينحدر من محافظة البصرة جنوبي العراق، عمل خلال حياته الفنية على تقديم رسومات عديدة في الصحف المحلية والعربية، خاصة الصحف المصرية، فضلاً عن تصميمه لأغلفة العديد من المجلات، واسهم في إثراء الحركة الصحفية والفنية العراقية خلال العقود الماضية".
وكان لجريدة الصباح أن حضرت معرضه الأخير في مدينته، وأجرت معه حواراً موسعاً حول تجربته ومعرضه، أكد فيه أن على الفنان أن يغور في عمق الذات قبل تنفيذ أي عمل.
وقد جاء معرضه الأخير بعد انقطاع لسنوات طويلة، ليقدّمه بأكثر من 50 عملاً تخطيطياً، اقترب فيها من السريالية، والمزج بين الواقعية والغرائبية. ومن هنا، جاءت أعمال معرضه هذا لتختصر تاريخه الفني الذي أسهم فيه بطروحات جديدة في مجال التخطيطات، والعمل الغرافيكي والتصميمات التي كانت مختلفة عن الفنانين الآخرين، مع التجديد في ما يلائم التطوّر الفني الذي مرَّ به. فالشهد الذي كان مقيماً في أميركا أقام عدّة معارض هناك، فضلاً عن أعماله التي قدّمها في براغ، حين كان مقرّباً من الشاعر محمد مهدي الجواهري، فأعاد إنتاج قصائده في أكثر من عمل، منها ما قدّمه في معرضه هذا.
وفي حديثه الخاص لصحيفتنا، أشار الشهد إلى أن هذا المعرض جاء امتداداً لتجارب منذ منتصف الثمانينيات وحتى الآن، بدأ بالجريب، واستخدم أساليب مختلفة، لكنه كان مع هذا التجريب مغرماً بالواقعية السريالية التي تعتمد الحلم والفكرة النابعة من داخل الذات. مبيناً أن هذه الأفكار "نضجت في مطلع التسعينيات، وأقمت معرضاً وبعد ذلك انكفأت زمناً طويلاً من دون أن أعرض أي عمل، لكني كنت أواصل التخطيط والتمرين. لهذا الانكفاء كانت أسباب عدة، منها أنك غير قادر على البوح في زمن التسلّط، ثانياً كنت تعتقد أنه لا وجود لمتلقٍ سواك، لهذا كنت أجرب مع نفسي".
وأضاف الشهد، أن كل شيء بعد تغيير النظام السابق قد تغيّر، فأصبح هناك متسع من الحرية والتأمّل، فعاد للعمل من جديد، لكن بصمت، ليتوصّل إلى هذا الشكل. أما المضامين فتبقى خاصة لدى الفنان، وما يؤوله المتلقي فهو صحيح أيضاً.
وبيّن الشهد أنه بعد التغيير بدأ يشتغل بشكل مغاير، فـ"حررت النص والشكل معاً، البعض من المقربين كان يرى أن هذه الأعمال ليست سهلة على المتلقي، وكأنني أصدر ترجمة لكتاب من دون حواشٍ أو تفسيرات، وبما أنني كنت أمتلك قدرة تشخيصية وبوصف الواقع، ولدي معرفة كاملة بالتعبيرية والسريالية، بدأت أعمل على هذه الأعمال، فأقمت معرضاً في العام 2005 في اتحاد أدباء البصرة، وقد اخترت هذا المكان لوجود متلقٍ نوعي، قدّمت فيها نصوص أبي القاسم الشابي، وخصوصاً قصيدته أنشودة الحياة، ومن ثمّ أعدت إنتاج قصائد الجواهري بأعمال كثيرة جداً". هذه الأعمال جعلت الشهد يرى في نفسه يقترب من السطحية أكثر من الغور عميقاً في الأعمال الأدبية، لأنه- حسب ما يقول- حاول ملامسة السطح الأدبي فحسب من دون الغور في داخله، وربما جاء هذا من عمله الطويل في الصحافة ورسم النصوص الأدبية في الصحف المصرية بالدرجة الأولى.
وبجوله في معرض الشهد هذا، سيلاحظ أمراً مختلفاً في تخطيطاته، فالخطوط الحادّة، والتجسيم الواضح لفيكرات الأعمال، تحيل بشكل أو بآخر على النحت، وكأن هذا الفنان حاول تقديم مصغّرات لأعمال نحتية لكن على الفحم، وبعض الأعمال قام بتلوينها بشكل لا يختلف عن الفحم كثيراً. وفي سؤالنا عمّا إذا كان قد رسم هذه الأعمال لتنفيذها كمنحوتات، أشار الشهد إلى أنه مغرم برسم الكتل المتناثرة ومن ثم يقوم بمزجها وتآلفها، وفي الوقت نفسه هناك فنانون لديهم الفكرة أقوى من التنفيذ والسطح الفني، لهذا "حاولت أن أبتعد قليلاً عن هذا، وأنفّذ السطح والفكرة معاً".
كاشفاً أنه خلال إقامته في أميركا، أقام ثلاثة معارض داخل الكونغرس الأميركي، بالأفكار هذه، كانت في أغلبها هجوم مباشر على الديكتاتورية الأميركية.
ومن جهة أخرى، خلال إقامته في براغ بالقرب من الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، "رسمت أكثر من 60 عملاً له بين قصائده وبورترهاته، فأخذ الجواهري منها أكثر من 30 عملاً، أغلبها تنفيذ لقصائده".
وما يأسف عليه الشهد بعد هذه الرحلة الطويلة من الفن والرسم والتخطيطات، التي نفّذ بعضها قبل أكثر من خمسين عاماً، أنه أضاع في سفراته عدداً كبيراً من الأعمال، فقد "أضعت في إحدى سفراتي أعمالاً كثيرة، منها أكثر من 50 عملاً زيتياً متفاوت الأحجام، وتخطيطيات بالفحم ولوحات بالألوان المائية، بعد أن فقط حقيبتي ومعها كل هذه الأعمال".
لكن هذا الفقدان جعل الشهد يصرّ أكثر على إنتاج أعمال أخرى، حتى إصابته بالجلطة التي جعلت من يديه غير قادرتين على مسك القلم أو الفرشاة، ومن وجهة نظره، فإنه ينبغي على الفنان أن يبحث في داخل النص وليس في سطحه، هذا البحث الذي هو أقرب إلى المخيلة يمنحك نوعاً من الراحة والإحساس بالحياة في عمق الفن.