علي الوردي لا يثق بالتفكير الوثوقي

ثقافة 2020/11/04
...

د. عبدالجبار الرفاعي
أكثرُ أعمال علي الوردي تستقي نماذجَها من شخصيةِ الفرد والمجتمع العراقي، تدرسُ الظواهرَ المتفشيةَ في السلوك، لا تغفل التقاطَ المواقف الشاذة، لا تهمل الممارساتِ المستهجنة والمنبوذة، ترصد ما تعلن عنه وتضمره تقاليدُالبيوتات البغدادية، وبروتوكولاتُ أسر الطبقة الأرستقراطية، تتكشف في أعماله ما تنطوي عليه هذه التقاليد والبروتوكولات من ازدواجيةٍ ونفاقٍ سلوكي. 
لا يترفّع الوردي عن الجلوسِ في المقاهي الشعبية، ومعاشرةِ الفقراء الذين يمارسون أعمالًا خدمية في الأسواق، يتعرّف على ثقافتِهم، يهتمّ بعاداتِهم وأعرافِهم التي تفرضها مهنُهم وطريقةُ عيشهم، يتفحص أنماطَ علاقاتهم الاجتماعية، والتقاليدَ والقيمَ السائدة في حياتهم. 
يترفّع الإقطاعيون والوجهاءُ والتجارُ ورجالُ الدولة وأساتذةُ الجامعة والموظفون الكبار عن الجلوسِ في المقاهي الشعبية ذلك الوقت، وارتيادِ تجمعات ذوي المهن الخدمية. الوردي لا يكترث بذلك، يجلس حيث يجلس العامة، يحضر مقاهيهم، يرتاد مجالسَهم، لا يشعرهم بتفوقه عليهم، ولا يستنكف من اتخاذهم أصدقاء. إسلوبُه التهكمي، وشخصيتُه المباشرة غيرُ المفتعلة، سرعان ما ينجذب إليها ويحبّها من يعاشره من عامة الناس. يشعر المهمشون لحظةَ يجلسون معه بالانشدادِ إليه، والرغبةِ في البوح بتفاصيل يومياتهم، والحديثِ عن تجاربهم الحياتية المتنوعة أمامه.كانت حكاياتُهم وأمثالُهم وطرائفُهم منجمًا زوّده بالمزيدِ من المعلومات والطرائف والمكائد والأمثال الضرورية لفهم شخصية الفرد والمجتمع العراقي.
عليُ الوردي سوسيولوجيٌ يقظٌ، دقيقُ الملاحظة، لا يُهمل ما يصفه غيرُه بالهامشيّ والعابر والحقير والمُنْحَطّ والخَسِيس والأحْمَق والضَئِيل. يحرص على التقاطِ دلالاتِ الظاهرة مهما كانت تافهة، يكشف عمّا لا تبوح به مضمراتُها، وما لا تقوله كلماتُها..
مسقطُ رأسه مدينةُ الكاظمية الدينية ببغداد، وهي تقع بموازاة مسكنه في الأعظمية. تضمّ الكاظميةُ مرقدَ الإمامين موسى بنِ جعفر وحفيدِه محمد الجواد، و تضم الأعظميةُ مرقدَ الإمام أبي حنيفة النعمان بنِ ثابت الملقّب بالأعظم. المدنُ الدينية بطبيعتها منجمٌ بالغُ الثراء للمعاني والدلالات والرموز، وهي موضوع شديد الأهمية للباحث في علوم الإنسان والمجتمع، ذلك أن هذه المدن تحتفي على مدار السنة بطقوسِ الزيارة وشعائرها، ومجالسِ العزاء، واحتفالاتِ المواليد، وتستقبل كلَّ يوم زائرين من مختلف المجتمعات والثقافات في العالَم. تبحث الأشياءُ في هذه المدن عن بصمةٍ دينية، نرى تلك البصمةَ ترتسم في هويةِ المدينة وأنماطِ العمارة والأزياء والأسواق، ومختلفِ وسائل العيش المادية، تؤشر إليها المعاني الرمزية، وتبوح بها القيمُ الثقافية.
 تنوعت خبرةُ الوردي الميدانية في دراسة المجمتع، وتعمقَ فهمُه للشخصة العراقية، وهو يعيشُ في فضاء تنوع مذهبي، بين الكاظمية الشيعية والأعظمية السنية. لكن ظلت مدينةُ الكاظمية مُلهِمةً لعلي الوردي في كلِّ أعماله، انعكست في كتاباته أمثالٌ وحكايات وقصص وطرائف ونوادر مستقاة من حياة الناس فيها، واهتمامِه بمناسباتها الدينية والاجتماعية، وارتيادِه لمقاهيها وأسواقها ومنتدياتها، وزياراتِه للمرقد المقدّس للكاظمين.
ينحاز الوردي لمنطق الاستقراء الحديث، بل يعود للعصر اليوناني فيبجل السفسطائيين، ويرفض بشدة المنطقَ الأرسطي، موجهًا نقدًا لاذعًا لهذا المنطق، الذي ينتقل فيه التفكيرُ من الكليات إلى الجزئيات، وتتضمن المقدماتُ النتيجةَ، خلافًا للمنطق الاستقرائي الذي ينتقل فيه التفكيرُ من الجزئيات إلى الكليات، ولا تكون النتيجةُ معروفةً مسبقًا، لأنها ليست متضمَنةً في المقدّمات.
المنطقُ الأرسطي يعبّر عن قوالب ساكنة، لا ترى حركةَ الواقع، ولا تتسع لتطوراته، ولا تواكب متغيراتِه، ولا علاقةَ لهذا المنطق بالطريقة التي يفكر فيها الناس، يقول الوردي: "المفاهيم المنطقية لا تقنع إلا أصحابها، أما الناس فلهم مفاهيم أخرى. ومن يريد أن يطبق أقيسة المنطق في أمور المجتمع باء بالفشل الذريع". 
في مقابل رفضه للمنطق الأرسطي يشيد الوردي بالسفسطائيين، الذين ساد تفكيرُهم في أثينا قبل ظهور سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويرى "أن السفسطة كانت فلسفة ذات أهمية اجتماعية لا يستهان بها. ومن سوء حظها وحظ البشرية انها غُلبت أو قُتلت في مهدها، فأصبحت محتقرة، والمغلوب دائمًا محتقر. ولذا أخذ المفكرون ينسبون لها كل نقيصة ويجردونها من المحاسن" . الوردي يهتمّ بنزعة الشك لدى السفسطائيين، ويرى أن طريقتَهم في التفكير تزلزل اليقينيات، وتزعزع القناعات، لأنها لا ترى مقياسًا للحقيقة غير الإنسان. يعقِّب الوردي على رأيهم: "إن الإنسان هو مقياس الحقيقة"، بقوله: "ولست أرى مبدأ اصلاحيًا أروع من هذا المبدأ السوفسطائي العظيم" . 
 على الرغم من أن المعرفةَ تبدأ بالشك، وهو منبع توالد الأسئلة، إلا أن تفكيرَ السفسطائيين لم يتوقف عند إثارةِ الشكوك وطرحِ الأسئلة، بل انتهى إلى حالةِ ارتيابٍ بكلِّ شيء، قادتهم إلى نسبيةٍ عدمية، لم تعد فيها أيةُ حقيقيةٍ ثابتةٍ من منظورهم. قضيةُ نفي أية حقيقة تنطوي على مفارقةٍ داخليةٍ تنقضها، فإن كانت هذه القضيةُ حقيقة، فقد أقرَّ من يقول بها بقبول حقيقةٍ لا شكّ فيها، وإن كانت هذه القضيةُ ليست حقيقةً لم يعد هناك أيُّ شيءٍ حقيقي، حتى هذه القضية، فتنقض هذه القضيةُ مدعاها.
لا أريد أن أتحدث عن الشكّ وأثرِه المهم في تطور التفكير الفلسفي، وخلقِه آفاق رحبةٍ للعقل النقدي عبر التاريخ، وكيف أنه كان ضروريًا لتقويض بداهاتٍ ليست بديهية، ومقولاتٍ مسلَّمٍ بها بلا برهان، وأقوال شائعة يكرّرها الناسُ بوصفها يقينياتٍ لم تصمد أمامَ أيّ تفكير نقدي.
 كلُّ فيلسوف، وإن كان تفكيرُه ينطلق من الشكّ، لكنه يرتكز على حقائق ينطلق منها. كان نيتشه يبجّل السفسطائيين في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، غير أنه في كلِّ أعماله ينطلق من حقائق مسلَّمةٍ يرتكز عليها تفكيرُه.
الوردي على الرغم من ثنائه على السفسطائيين لكنه لم يكن سفسطائيًا. طريقةُ تفكيره والنتائجُ التي ينتهي إليها ليست متطابقةً أو قريبةً من طريقةِ تفكير السفسطائيين وحججِهم ونتائجِهم الارتيابية العدمية.
الوردي لا يثق بالتفكير الوثوقي، ويحذّر من التعميم، وإطلاقِ الأحكام الجزمية النهائية واليقينيات، وإن كانت كتاباتُه لا تخلو من تعميمات وأحكام جزمية نهائية على شخصية الفرد والمجتمع العراقي، وكأن هذه الشخصيةَ تعيش في ثوابت أبدية مقيمةٍ في الصراع الذي لا يتغيّر بين البداوة والحضارة.
لا أتفق مع منهجِ الوردي وكل تطبيقاتِ هذا المنهج على مختلف الظواهر في المجتمع العراقي، كما سأشير إلى ذلك في مقالات آتية، إلا أن محاولتَه النقدية الشجاعة في مجتمع تقليدي مغلق تستحقّ التبجيل، كانت وما زالت تجذبني شجاعةُ علي الوردي ونقدُه الصريح وسخريتُه اللاذعة. السببُ الأساسي لشيوعِ كتابات الوردي هو تفسيرُه العلمي الواقعي للظواهر الاجتماعية المتنوعة، ‏وأسلوبُه القصصي الحكواتي، وحذرُه من الفهم الوعظي المبسط. 
علي الوردي يقول في العلن قبل 80 عامًا ما نقوله نحن في السرّ اليوم. عقلانيتُه النقدية كانت مفاجئةً في مجتمع تهيمن على حياته قيمٌ دينية وعشائرية تقليدية لا تطيق التفكيرَ الحرّ، وأعرافٌ وعاداتٌ متشدّدةٌ. لا نقرأ في أعماله الصادرة ذلك الوقت ما يشي بتردّد أو خوف من نقد مُعلَن لتلك القيم والتقاليد، يعلن ما لا يمكننا إعلانُه اليوم، يكتب ما لا يمكننا كتابتُه، بعد أن ضاق فضاءُ الحريات في مجتمعنا، وكبّله مجدّدًا انبعاثُ قيم دينية مغلقة وعشائرية متشدّدة.