على سلّم الذكرى.. قراءة في عالَم مؤيد نجرس

ثقافة 2020/11/06
...

  هدى عبد الحر
هي ليست المرة الأولى التي سيكون فيها ديوان الشاعر مؤيد نجرس (سماء لطائر من ورق) الصادر عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر في عَمان عام 2018 م في موضع الفحص والتحليل والدراسة، وأجزم أنها لن تكون الأخيرة لما في هذا الديوان العذب من ملامح إبداعيَّة خصبة وحقيقيَّة تغري كل محبّ للشعر أنْ يتأملها ويشغل فيها فكره.
وهكذا حلقّت في سماء الطائر الورقي الفسيحة وهبطت عند قصيدة: (على سلم الذكرى لـ صديق قديم) التي أراها من أعذب ما تضمنه الديوان وأكثر القصائد شجناً ولوعة وحنيناً لما خلقته في نفسي من ألفة غريبة مع كل بيت وجملة فيها.
يحيلنا العنوان الأخاذ إلى (نوستالجيا) عميقة وحقيقيَّة، إذ تظهر ثلاث علامات (ذكرى- صديق - سّلم) ترتكز عليها القصيدة، وقد نجح الشاعر في جعل هذه الجملة آسرة ومشوقة ينتظر المتلقي ما بعدها بشغف. فقد أحسن صياغتها بمقاسات دقيقة على وفق مشاعر الحنين والشوق إلى الطفولة والذكريات التي أراد لها أنْ تشيع في فضاء القصيدة وتجعل المتلقي رهن ثقلها، لذا يبدو القارئ وكأنه يريد قراءة الرسالة بأقصى سرعة بغية الوصول إلى اسم المرسل.
شكّلت ألفاظ الحنين الجارف معظم جسد القصيدة الذي بدا مثخناً بجراح الشوق والوجع، إذ تتبع الشاعر المواقف والمحطات التي حاول شحنها بكل ما لديه من مخزونٍ صالحٍ للشعر من ذاكرة طفل متوقدة جداً حفظت ذلك العالم الزائل: (البساتين/ القمح/ العشب/ الجنوب/ الأهوار/ الريف/ الحقول/ جمر الكوانين/ ناي....) وقد عمل الشاعر على إحياء هذه المواقف وإعادة نسجها بعاطفة حقيقيَّة ورؤية جديدة بحيث تجعل المتلقي مكبّلاً لها لا يستطيع الخروج من هذا البحر المتلاطم من الحنين.. وتبدو بنية الماضي هي المهيمنة منذ الفعل الماضي الأول (أحطتُ) ليستمر توالى الأفعال الماضية بعده حتى أغُرِق فضاء القصيدة الزمني بها: (أذرّ/ غسلت/ انفرطت/ أثّثت/ كفرت/ رحت/ أمنت/ نما/ شربناه/ باءت/ شاخت/ نسجت/ أمنوا/ نضجت/ جفت/ تسرب) وغيرها كثير.
 
أَحطْتَّ بالشَوكِ أَغصاناً تواريني
كي لا أرتّقَ جلبابَ البساتينِ
وكي أذُرَّ ربيعَ الشيب مُنكسراً
فتستعيد لصحرائي عناويني
أنا المُحمّلُ بالإسفلتِ يَمزجُني
دمعٌ، فيبدو ترابي سَيئَّ الطينِ
وقد شكّلت هذه الأفعال زوايا المشاهد والصور واستطاعت إيقاف الزمن عند طفولة الشاعر الذي يظهر صوته عبر ضمير المتكلم (أنا) في البيت الثالث، وفي البيتين: العشرين والثالث والعشرين وتوالت الجمل الشعرية التي تدلّ على الطفولة والحنين والذكرى: (رصيف طفولاتي/ أثثت أرغفتي/ أنقاض أغنيتي/ نشيد الاصطفاف/ مواعيد رواد الدرابين/ طعم الشاي/ أكواخاً لتشريني/ ثغر الروازين/ نكهة الموال/ شظايا الحرب/ حقول.......).
غَسلتُ وجهي بوَحيّ الخبزِ وانفرطتْ
على رصيفِ طفولاتي, شياطيني
لأنَّ من فرطِ ما أثَّثْتُ أرغِفَتي
كفّرتُ بالخبزِ إحسانَ الطواحينِ
ورحتُ أُوحي نبياً دون معجزةٍ
يرتلُ القمحَ ترتيل القرائينِ
 
هذه الجمل المتخمة بالشوق والنأي والوحشة جعلت من المكان هو الحيز الذي تدور فيه الذكرى ومن أهم هذه الأماكن:(البساتين/ الصحراء/ الرصيف/ الفردوس/ الدرابين/ مقهى المساكين/ الصفوف/ الريف/ الأهوار/ الدكاكين/ الحقول/ الروازين).
لقد ظهر الشاعر هنا وكأنه يتشبث بالأمكنة لأنها هي من يعيد إليه هذه الذكريات ومن ثم عليه هو أنْ يعيد إنتاجها شعراً، وبطريقة تجعل منها قادرة على الاحتفاظ بكل هذا السيل الهادر من الشجن والود والحنين.
هذه القصيدة معزوفة تأخذ من يستمع إليها أو يقرأها رهن زمانها ورهن ألفتها الباذخة التي تجعل منها من ألمع قصائد الديوان وأكثرها عفويَّة ولكنها عفويَّة الأديب العارف بكل حرفٍ يكتبه.