آخر المطافات

الصفحة الاخيرة 2020/11/13
...

حسن العاني 
هل أستميح العذر للفتى الذي ما زالت روحه تنبض تحت وطأة السنين العجاف، أم أتوكأ على عصاي وامضي مخذولاً حيث يدفن الشيوخ احياء في حضرة الاحفاد، شفيعي الى الشفاعة اني منذ ولدت في زمن الاقحوان بين عيني امرأة وهبت حياتي معنى التوقد قبل أن تختفي مثل حلم لم يكتمل، وانا اكتب اليها متعلقاً بأمل موؤد، ولست ادري تحت أي الهواجس ينتابني اليقين، ان هذه الرسالة هي آخر المطافات الموجعة...
يا سيدة العصور المتوهجة، موسم اخر يجتاز حقلي صامتاً، لا شمعة تطفأ عند انتصاف الليل احتفاء بزمن جديد، لا بكاء يفجره اللقاء، وباردة هي المواقد، انطفأت خطانا الى (حوار) قاسم سبتي و(رواق) موفق الخطيب، وذبلت حدائق الحسن بن هانئ ، فمن يهب (الفنون الجميلة) رونقها وقد جفت الألوان يا اشهى من تأنق الزيت وتراقصت ذؤابة الفرشاة بين اناملها، وأتساءل كلما حل أيلول وذاكرة السفر البعيد: أين العتابات الحزينة وأين حرائق الانفاس تذيب الثلج على شرفات المنزل، والمنزل غرفة من حجارة (سفين) واغصان البلوط في مخابئ (شقلاوة)، وحمى العشق وحدها من تنتصر على شراسة البرد...
اثنان هو العالم، انت وانا، تحت شجرة سدر معمرة في (راغبة خاتون) نحتمي ضاحكين من دغدغات المطر الجميل، في ذلك الليل الشتائي البهي حيث اوى الجميع الى النوم الا صحوة الجنون تحت الشجرة، اكتشفنا البهاء الكوني وكيف تولد الاسرار في العيون، ثم مضينا نزف البشرى ونزرع دروب بغداد بالنرجس، من «راس الحواش» الى كورنيش الكاظمية، ومن جسر الصرافية الى قاعة الدروبي، ومن صباحات زيونة وشارع الرشيد الى اماسي دجلة ومطعم في سفينة سكرى يرجرجها الموج، ما تركنا من جسد المدينة وابوابها وكرخها ورصافتها، ليلها ونهارها وفصولها ، خلية الا واودعناها ذكرى، هي اليوم تطاردني حيث صخب الامس يضج في الروح، وروحي موحشة من أيلول الى أيلول، فمن أي مشرق طلعت حتى سرت مياه الحياة في العروق، والى أي مغرب اويت ضيفاً على (الشيخ معروف) فلا شمعة ولا كف ولا سدرة ولا مطر ولا ضياع ليلي ولا..غير بابي المهجور.. ستعود من البلد المجهول، ما انفك الحلم المستحيل يراودني، فيا سيدي الشيخ أُقبّلُ عمامتك أكرمْ وفادتها واطلق سراحها فانتظاري لا يهجع ، أنا الذي أوفيت العهد الذي كان ميثاقاً وقاومت الموت كما كنت تريدين ، توسلت عيناك (لا تمت من اجلي)، ولاجلها يا اشهى من توهج الزيت وتأنق على اناملها احتملت الحياة.. ووحيداً أتعلق باذيال الامس، واثنان هو العالم، الحزن والوحشة، وانت وانا وكوخ من البلوط وحجارة سفين ، وهمسات دجلة وليالي المسرة وبغداد التي وشمنا دروبها بالمحبة.. وهو الذي يخامره اليقين، انها آخر اعوامه وآخر المطافات الموجعة.