الاقتصاد العراقي بين الإفلاس المحتوم والإنقاذ المطلوب

اقتصادية 2020/11/21
...

 محمد صاحب الدراجي
اعتادت الأمم والشعوب على تدارس أحوالهم من باب التشاور في الأمر والعمل على الإتيان بالحلول الفضلى التي لا تقع ضمن الحسابات الحزبية أو الضغوط الإقليمية الدولية، وأيضاً ليس في إطار التمسك بإلقاء كرة التهم في مرمى الغير فالكل مسؤول والكل مسؤول عن رعيته.
من هذا المنطلق لا بُدَّ من فهمٍ أكثر واقعيَّة لما مرَّ به عراقنا العزيز ما بعد 2003 حتى اليوم وما يهدد وجود العملية السياسية الحالية برمتها في الأشهر القليلة المقبلة،

وأيضاً ليس بصدد التلاعب بالأرقام أو الوقائع الاقتصادية، فالجميع شهد حالة عدم دفع الرواتب للموظفين إلا من خلال تكرار نموذج الاقتراض الذي بات اليوم على ضفاف حافة الهاوية، والسؤال المركزي الذي لا بدَّ أنْ نطرحه جميعاً في هذا الحوار الصريح ما هي الحلول الفضلى المتوقعة وما ثمنها المجتمعي قبل الثمن السياسي المتوقع؟
أعتقد بضرس قاطع أنَّ المسؤولية جازمة على أهل الحل والعقد في القيادات السياسيَّة العليا للبلد للانتهاء الى هذه الحلول. وما هذه الورقة إلا خارطة طريق مقترحة للتوصل الى تلك الحلول المفترضة والمنشودة، ولعلي أبدأ بتحليل الفرص والتحديات التي يكثر الحديث عنها من قبل كثير من المختصين وغير المختصين من المتصدين لسلطة القرار السياسي ومن النخب والكفاءات الأكاديمية والمثقفة
 
معطيات الواقع
تبدو الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي التي تقدمت بها الحكومة وكأنها مركب نوح لنجاة الاقتصاد العراقي، بينما أي قراءة من غير متخصص تكتشف عن أنَّ هذه الورقة بلغتها الأكاديمية الراقية لم ترق الى مصاف الحلول الإدارية والمالية والنقدية العاجلة والمنظورة ثم الحلول على المدى البعيد فكأنها تتعامل مع مريض مطلوب تقديم إسعافات أولية له بخطة علاج طويل!
الأمر الآخر، إنَّ البرنامج الحكومي للسيد رئيس مجلس الوزراء محدد بخطة انتقالية نحو إجراء انتخابات مبكرة عادلة ونزيهة تستجيب لإرادة الاحتجاج الشعبي ومواقف المرجعية الرشيدة في التغيير المنشود للعملية السياسية وإخراجها من سياق الإدارة بمحاصصة المكونات الى الإدارة بحكم المواطنة.
وهذا يتطلب من الحكومة ومجلس الاقتصاد فيها العمل على تحليل الأزمة والخروج بحلول لإسعاف الميزانية بمفردات إنتاجية واستثمارية تطويرية يمكن حصد نتاجها في أشهر إنْ لم تكن في أسابيع او أيام.
الأمر الثالث، لم تحمل الورقة البيضاء حتى في حلولها المستقبلية أي مشاريع لتغيرات جوهريَّة في القوانين العراقية النافذة بل مجرد استكمالات لتنفيذ مثل هذه القوانين أو تفعيل تعليمات وأنظمة حكومية غير مفعلة لعلَّ أبرز مثال عنها "أتمتة المنافذ الحكومية" الأمر الذي سمع به الجميع منذ سنوات مضت!!.
 
تحليل الفرص والتحديات
كجهة تشريعية برلمانية لا يمكن دستوريا استبدال المواقع مع السلطة التنفيذية، ولكن لأنَّ النصيحة مطلوبة جداً في إدارة أزمة مخاطر الانهيار المرجح للاقتصاد الوطني وانعكاساته الخطيرة على العملية السياسية برمتها أجد من المفيد تثبيت النقاط التالية:
أولاً: من أولويات العمل الإداري الاستشراف المنظور لتحديد الفرص والتحديات لما يمكن أنْ يحدث اليوم وغداً وما بعده، وأي خلية أزمة اقتصادية لا بدَّ أنْ تعرف أنَّ الاقتصاد العالمي يمر بأزمة انكماش خطيرة بسبب آثار جائحة كورونا، وهذا متوقع ومنشور في أدبيات صندوق النقد الدولي ومنشورات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأشبع بحثاً في مواقع التواصل الاجتماعي من النخب والكفاءات العراقية وقدمت توصيات في كيفية الخروج من هذه الأزمة التي كانت محل عناية في التعامل مع موازنة 2020 التي لم تقدم وأيضاً مع قانون الاقتراض الذي اشترط فيه تقديم ورقة إصلاحية لمثل هذه الحلول وأيضا كانت هذه الأفكار الاستشرافية محل مناقشات مستفيضة بين اللجان المختصة في مجلس النواب منها اللجنة المالية والجهات الحكومية ما قبل وما بعد تشكيل حكومة السيد الكاظمي، فماذا كانت نتيجة هذا الجهد الاستشرافي؟ لقد بقت البحصة في اصدار الورقة البيضاء من دون حلول عاجلة ومنظورة وتم الاكتفاء بحلول مستقبلية فحسب، وهذا اخطر ما في التحديات المنهجية لتفكير القائمين على العمل الحكومي في عدم العمل على بلورة مثل هذه الحلول.
ثانياً: يتمثل التحدي الثاني في تقاذف كرة الاتهام بعدم توزيع الرواتب بين الحكومة ومجلس النواب في تصريحات رسمية ثم تظهر تصريحات أخرى مغايرة، ثم أخرى مخالفة وهكذا دواليك حتى وجد المواطن الذي ينتظر راتبه الشهري في دوامة الاقتراض وموافقة مجلس النواب من عدمه وكأنَّ الحكومة لا تريد تحمل المسؤولية الدستورية والاعتبارية بكونها السلطة التنفيذية وهناك إجراءات قانونية مالية مطلوب بها العمل وفق ما نصت عليه وليس استخدام الإعلام والتصريحات المتضاربة للبحث عن هذه الحلول أمام المواطن الذي ينتظر راتبه الشهري.
والأخطر من ذلك انه لا يزال هناك احتمال الاقتراض في العام ٢٠٢١، وهنا يجب أنْ نكون صريحين جداً، فالاقتراض الداخلي هو تعبير مجازي غير حقيقي عن حقيقة استخدام أموال من البنك المركزي العراقي، إذ إنَّ المصارف العراقية غير قادرة على إقراض الحكومة لأنها تعاني من نقص السيولة أساساً. فعلى هذا الأساس يقوم البنك المركزي بإصدار حوالات خزينة للمصارف الحكومية لتعطيها بالتالي للحكومة لسد العجز. السؤال المهم هنا من أين يأتي البنك المركزي بهذه الأموال؟ الجواب إنَّ البنك لديه حلان أحلاهما مر، الأول استخدام الخزين الاحتياطي من العملة الصعبة وتحويله الى دينار عن طريق زيادة مبيعات نافذة بيع العملة والثاني طبع العملة العراقية من دون غطاء مقابل لها من الذهب أو العملة الصعبة. هذان الحلان سيؤديان عاجلاً أم آجلاً الى نتائج سلبية جداً قد تصل الى الانهيار التام من خلال إما إفلاس احتياطي البنك المركزي أو فقدان السيطرة على سعر الصرف من دون الاستعداد لذلك وحماية الطبقات الهشة في المجتمع وبالتالي وفي ظل ضعف سلطة وهيبة الدولة يمكن أنْ ينهار النظام السياسي بسهولة في ظل هاتين المعضلتين.
ثالثاً: من دون الخوض في تفاصيل أخرى، دعونا نقف على أفضل الفرص التي يمكن للحكومة التي تقوم بها على وفق النظرة الاستشرافية لما يمكن أنْ تكون عليه الأمور عام 2021 وفي هذا المجال يمكن تثبيت حقيقة تبدو واضحة عند الكثير من خبراء الاقتصاد والمال دولياً وإقليمياً تتمثل في أنَّ الانكماش الاقتصادي الدولي ستظهر نتائجه في النصف الأول من هذا العام المقبل، بما يتطلب من الدول التي تعتمد الاقتصاد الريعي مثل العراق بنوع اقتصادي واحد هو النفط، العمل على تقليص موارد الاستيراد وتعظيم إنتاجية الدخل لسد النقص من المستورد وإلغاء السلع الكمالية للحفاظ على أفضل سعر صرف مطلوب.
وفي هذا السياق يمكن اقتراح الآتي لتنفيذ هذه المنهجية الاستشرافية في النقاط التالية:
1 - الطلب من أوبك استثناء العراق من تخفيض كميات النفط المصدرة والالتزام بالحصة الأصلية. 
2 - تحويل أصول وموجودات الدولة الى سيولة نقدية وبيع الأراضي المتجاوز عليها وبيع الأراضي الزراعية للمتعاقدين عليها.
3 - سيطرة الحكومة على الصناديق الاستثمارية للتقاعد والضمان والتأمين وتشغيلها من أجل جلب عائدات مناسبة.
4 - إيقاف المصروفات الاستهلاكية في دوائر الدولة وغلق السفارات والبعثات في الدول التي ليس لها تمثيل دبلوماسي في العراق.
5 - تجميد المخصصات الخاصة بالرئاسات وبعض الوزارات وتحقيق مبدأ المساواة بالراتب والمخصصات لجميع موظفي الدولة. 
6 - الجباية الإجبارية للخدمات كالكهرباء والماء والمجاري وتحصيل جميع ديون الدولة بتحديث آليات الاستحصال وتشجيع المكلف بدفع الضريبة على دفعها في الوقت المحدد لها.
7 - فرض التأمين الإجباري على جميع النشاطات التجارية.
8 - إيقاف جميع التخفيضات في أسعار النفط داخلياً وخارجياً.
9 - تغيير سعر الصرف على السلع المستوردة على أنْ يكون مصحوباً بسلسلة إجراءات للسيطرة على الأسعار وحماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدخل.
10 - فرض ضريبة مبيعات وزيادة الكمرك على بعض المواد الكمالية وزيادة الوعاء الضريب وليس الضرائب.
11 - إعلان جميع المصانع الحكومية كفرصٍ استثمارية وحماية المنتج المحلي ومنع بعض الاستيرادات.
12 - العمل على منح ضمانات مصرفية لسحب السيولة النقدية الموجودة في المجتمع وإعادة توظيفها في مشاريع إنتاجية وذلك يتم بطرق شتى سبق وإنْ تم شرحها في مقالات سابقة.
13 - فرض الدفع الإلكتروني وتقليل استخدام الدفع النقدي الى أدنى حد وتشجيع التجارة الإلكترونيَّة.
14 - اعتماد البطاقة البايومترية أو الرقم الوظيفي الموحد عند توزيع الراتب.
15 - إعطاء امتيازات وتسهيلات للمستثمرين الذين يدفعون مبالغ مقطوعة للدولة.
16 - فتح باب المنافسة في قطاع الاتصالات والانترنت وإنهاء حالة الاحتكار التجاري لبعض الشركات.
17 - فتح باب الاستثمار في الثروات المعدنية كالفوسفات والكبريت وغيرها.
18 - قيام وزارة المالية ببيع العملة الصعبة بصورة مباشرة للراغبين بالشراء.
19 - ضخ قروض لتشغيل القطاع الخاص وإعطاء ضمانات سيادية للشركات العالمية المجهزة للخطوط الانتاجية للمصانع في حال استيراد القطاع الخاص لهذه الخطوط الإنتاجيَّة.
20 - إعادة هيكلة البطاقة التموينية أو تحويلها لمبالغ نقدية تسلم للعاطلين والمتقاعدين وصغار الموظفين ومن يثبت أنَّ مدخوله الشهري يقل عن مليون دينار.
رابعاً: كلما تقدم لا يحتاج الى تشريع قانون جديد أو تعديل أي قانون نافذ، فقط يحتاج أنْ تكون منهجية إعداد موازنة 2021 تقشفية صريحة بشكل يحافظ على مضمون الاقتصاد المجتمعي المنضبط الذي يحافظ على حقوق الطبقات الهشة والفقيرة من دون الأخذ بتوصيات الانتقال الى اقتصاد السوق المفتوح الذي يحطم عظاماً هشة لشريحة واسعة من المواطنين، والفرص المتاحة في تطبيق تقدم من نقاط يمكن أنْ يكون أمام مسؤولية مجلس النواب فعلاً وليس قولاً فقط عندما تقدم الحكومة على تفعيل إجراءات اقتصادية مالية ونقدية تعزز موارد الميزانية العامة للدولة، وعلى مجلس النواب المصادقة عليها في قانون موازنة 2021، وليس العكس أنْ تطلب من مجلس النواب الموافقة على ورقة إصلاح اقتصادي بيضاء تنظر للمستقبل الطويل بخطة قد تكون فعلاً صحيحة ولكن من دون أنْ تتخذ الخطوات العاجلة والفاعلة لتقليل الاضرار بالاقتصاد العراقي.
نعم نمرُّ بأزمة خانقة ولسنا الدولة الوحيدة التي تواجه مثل هذه الكارثة الاقتصادية، لكنْ إدراك ما يمكن أنْ يقلل من مخاطر هذه الأزمة، يتطلب وعياً حقيقياً بها وليس تلمس أهدابها، فمن ينقذ من طوفان الماء يبدأ بالتنفس لإعادة أسس الحياة له وهكذا الخطوة الأساسية لإنقاذ الاقتصاد العراقي تبدأ في توليد فرص العمل في القطاع الخاص من خلال جذب الأموال العراقية لفرص استثمارية حقيقية، فضلاً عن أبرز شروط الجذب الجيد للشركات الإقليمية والدولية في توليد هذه الفرص التي توفر رئة متجددة لتنفس الاقتصاد العراقي هواء الإنتاج غير الريعي.. عندها يمكن التفكير بموارد الخطط التي وضعت في الورقة البيضاء لمستقبلٍ قائمٍ على منهجيَّة غير المنهج الريعي، وربما يصح عندها ما ورد فيها من أفكار بيضاء أو لا وتحتاج الى تطوير جديد.