سيرة لامرأة استثنائية

ثقافة 2020/12/01
...

هدية حسين
 
الاستثناء في اللغة هو الحالة التي تخرج من الحكم أو القاعدة العامة، وهو ميزة أو حصانة يتمتع بها فرد أو طبقة أو نظام، والاستثنائي هو من يقوم بعمل غير معتاد، فما الذي قامت به روث شلسكي لتصبح امرأة استثنائية، تشيّد عالماً من فوضاها المنظمة تحقق من خلاله إنسانيتها التي منحها إياها الخالق؟ لقد وجدت نفسها كأنها نبتة برية في صحراء ليس معها أو حولها ما يشبه جنسها، فظلت تتطاول وتتصدى لهجمات الريح، فهي المرأة البيضاء الوحيدة في مدينة كل سكانها من السود، غادرت منذ زمن بعيد أسرتها وقطعت كل ما يمت لها من صلة بهم لتتزوج من رجل أسود في زمن مايزال التمييز ضد السود ينخر في المجتمع الأميركي ويكاد يطيح بإعلان إبراهام لينكولن منذ عشرات السنين لتحرير العبيد وإقامة مجتمع
 المساواة. 
وروث شلسكي هي أم الكاتب الأميركي جيمز ماكبرايد، ابنة لأسرة يهودية يدير شؤونها أبٌّ متطرّف ومتحرّش ويكره السود، في مراهقتها أغرِمت بشاب أسود في وقت كانوا يقتلون فيه أيّ رجل أسود ينظر الى امرأة بيضاء في الجنوب، هربت من الأسرة وغيّرت اسمها وديانتها وتزوّجت رجلاً أسود فخلّفت منه ثمانية أولاد كان آخرهم كاتبنا جيمز ماكبرايد الذي لولاه ما عرفنا شيئاً عنها. 
وبعد وفاة زوجها تزوجت ثانية من  رجل أسود أيضاً فأنجبت منه أربعة ليصبح مجموع أولادها اثني عشر، تعمل وتربي الأولاد بنظام صارم لأن زوجها الثاني يعمل في مدينة أخرى ولا يأتي الا في نهاية الأسبوع، وسنعرف الكثير عنها في سياق السيرة التي تحمل عنوان لون الماء، سيرة الكاتب وسيرة هذه الأم التي أصرت على أن يواصل أبناؤها دراساتهم العليا فكرّست حياتها لهم مضيّقة على نفسها بكل ما تستطيع من أجل هذا الهدف، وهي تحمل صندوق ذكرياتها السيئة الذي لا يعرفه أحد إلّا بعد سنوات طويلة حين رفعت الغطاء أمام ابنها لندرك الأسباب التي جعلت منها امرأة استثنائية خلقت عالمها بنفسها وامتلكت بصيرة قل نظيرها في زمن
 صعب.
يقول الكاتب في مقدمة قصيرة لهذه السيرة: في صباي لم أكن أعرف أصل أمي، ولا أين ولدت، ولا من هما والداها، وكانت تقول كلما سألتها(إن الله خلقني) وعندما سألتها عن بشرتها البيضاء تقول (لون بشرتي فاتح) وتغير الحديث، وقد ربّت اثني عشر طفلاً أسود وأرسلتنا جميعاً الى الجامعة وإلى الدراسات العليا بعد التخرج من الجامعة في معظم الحالات، أصبح أولادها أطباء وأساتذة وصيادلة ومعلمين، غير أننا لم نعرف اسم أسرتها قبل أن نبلغ سن الرشد... وهي ابنة حاخام يهودي، وقد أفشت لي بذلك كنوع من المعروف أكثر منه رغبة في العودة الى ماضيها).
ويقول في سياق السيرة بأن أمه كانت تتجاهل النظرات الشاخصة إليها لأنها مختلفة عن الآخرين في الشكل، وعندما كان يسير معها وهو صغير يرى ويسمع ما يتفوّه به الآخرون فإنه يشعر بالخجل منها (لم أرغب أن يرى العالم أمي
 البيضاء).
عندما نقرأ (لون الماء) ستسحرنا هذه الأم بإدارتها هذا العدد من الأولاد وسنتوقف كثيراً حين تحكي عن نفسها بعد سنوات كثيرة من الكتمان عن تاريخ أسرتها والأحداث السياسية التي مرت بالبلد والأيام العصيبة التي عصفت بالناس والعصابات التي كانت تحمل شعار العنصرية ضد السود، وحركات التمرّد التي قام بها السود لبناء عالم يحقق لهم الحياة الكريمة وقادة تلك الحركات، وكيف تعاملت وهي محاطة بكل ذلك الغضب الذي يحيط بأبنائها السود، وسندرك بأن هذه المرأة تاريخ لمن لا تاريخ لهن من النساء، وهي المدرسة الحقيقية لأبنائها قبل وأثناء دخولهم
 المدارس.
تكشف روث عن فترة الثلاثينيات إذ الركود الاقتصادي يضرب البلاد فتقول: (إذا مرضت فليعينك الله لأنك ميت لا محالة، كان السل والنزلة الصدرية مستشرين في تلك الأيام... أكواخ دون مياه جارية ولا أسس ولا حمامات ولا مراحيض، لا طرق معبدة ولا كهرباء)، وحين تتحدث عن أسرتها يكون التركيز على الأب القاسي الذي لا يتوانى أن يضرب أبناءه بالسوط، ويحرم عليهم إقامة صداقات مع من لم يكن يهودياً، ولكثرة ما كان يوبّخ ابنه الكبير ويحمله عناء العمل في متجره فقد هرب الابن ذات يوم ولم تره روث بعد ذلك أبداً، وقد تتبعت أخباره فعلمت بعد سنوات بأنه التحق بالجيش وقُتل في الحرب العالمية
 الثانية.
ربما كان هروبها لرغبة دفينة في نفسها كرّستها وأدامتها معاملة الأب وتحرشه بها فكانت تقول (كنت أحب أن أعدو بأقصى سرعة لأشعر بالريح تهب في وجهي، ولأرى الأشياء ولا أكون في المنزل)، وجدت نفسها وحيدة حين هربت لكنها لم تنحرف، بل لتؤسس فيما بعد حياة وارفة بالعطاء، كانت شديدة الاهتمام بتعليم أبنائها في زمن صعب جداً، يقول جيمز على الصفحة 82 (ترعرعنا على الفكر والكتب والموسيقى والفن، التي كانت تغذينا بها بدلاً من الطعام) و (كانت ضد الرعاية الاجتماعية ولم تطلبها أبداً على الرغم من حاجاتنا، وكانت تكره المطاعم ورفضت دخول أي مطعم حتى لو قدم وجبات مجانية، وتفضل أن تكون بين الفقراء).
تندغم سيرة الكاتب بسيرة أمه ولا يمكن الفصل بينهما، لكن سيرة الأم هي التي سيركز عليها القارئ، ولا يمكن الإحاطة بكل ما فعلته تلك الأم عبر هذه المقالة، المتعة أن تقرأ كل التفاصيل و(لون الماء) بين يديك لتعرف من أيِّ لون خرجت هذه المرأة وكيف استطاع ابنها الكاتب جيمز ماكبرايد أن يفك لغز كتمانها ويفتح صفحات ذلك التاريخ الزاخر بالأحداث... رواية لون الماء ترجمها الى العربية فارس غلوب، وأصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.