نسق الاتكاء بين الغناء العراقي والشعر الفصيح

ثقافة 2020/12/13
...

د. حسين القاصد 
 
الاتكاء من الأنساق الثقافية التي يلجأ اليها الشاعر لإيصال رسالته الى القارئ/ المرسل اليه؛ وهذا النسق يؤسس عقدا ثقافيا بين القائل والمتلقي، ومفتاحا للوصول الى ذائقته، ومساحة واسعة من أرضية قبول الرسالة وتلقيها. ولقد لجأ السياب واتكأ على الأغنية في توظيف رائع؛ فهو بعد أن أطلق على (المومس العمياء) اسم سليمة، وهو اسم على غير مسمى، استفز المتلقي به، واستحضر مقطعا من اغنية شعبية عراقية شائعة: 
وتلوب أغنية قديمة 
في نفسها وصدى يوشوش:
 يا سليمة، سليمة نامت عيون الناس. 
آه.. فمن لقلبي كي ينيمه؟؛ 
ولعل الناس تنسى الأغنية القديمة لأنها من الأدب الشفاهي المسموع، الخاضع للاندثار بحسب تطور ذائقة المتلقي؛ لترسخ بعد ذلك وتكون من مبتكرات السياب.
 ولقد اشتهر عند العراقيين أن يأتي المطرب بأبيات فصيحة ثم ينسج على معناها شيئا من الشعر العامّي، ومن ذلك، ما غناه “داخل حسن”: “ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب، ثم يأتي بموال “أبوذيه” ألا ليت الشباب يعود يومين، وأخبره بالمشيب شعمل بيه؛ وقل مثل ذلك في موال رياض أحمد حين ابتدأه بـ (يا أعدل الناس إلّا في معاملتي ...) ثم قال معناه باللهجة العامية: عدل وي الخلكَـ ... وكذلك الفنان حسن بريسم حين جاء بالمتكئ دون ذكر المتكأ عليه، (شنهو نفعك وانت لي بدنياي ضيم.. عود أموت تكَول ما يستاهل) وهي من بيت عبيد بن الأبرص “لألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي” وحذف المتكأ عليه أبلغ؛ والاتكاء جسر للمتلقي وحبل وصل؛ وقد قال الشاعر كاظم اسماعيل الكَاطع في واحدة من أروع قصائده: اللوحة..( واحد بناله قصر باسعار مفتوحه، رسموله طير بقفص والايد متلوحه، واختلفوا عل السعر واللي رسمها تعب بالجيه والروحه، الرسام دمه الصبغ وتكلفه اللوحه، ما عامل عل الرسم عامل عل جروحه، طال النقاش وكبر، واللوحه متعلكَت عالكاع مطروحه، ايام بعد الزعل شفناها ممسوحه، والطير منها اختفه ومنهم سحب روحه، الطير ليش اختفه ومنهم سحب روحه؟ الرسام حطه بقفص بيبانه مفتوحه).. ولقد اشتهرت هذه القصيدة بموال شجي بصوت كريم منصور، وأحسبها نواةَ اتكاءٍ دفعت الشاعر المبدع عارف الساعدي للانطلاق منها، فجاء بـ (ما لم يقله الرسام) “وكان يرسم بلداناً ويحسدُها وكان يشتمُ اهليها إذا نظرا، لأنه رشّ ريفاً فوق ضحكتهم وكان يرسم طيناً مورقاً صورا، وكان يرسم ابواباً مفتّحةً للناس يدخلها من تاب.. من كفرا، الكلّ يدخل من ابواب لوحتهِ إلّاه ظلّ على الابوابِ منتظرا.
 الكَاطع جعل الرسام يضع الطير في قفص أبوابه مفتوحة، والساعدي فتح أبواب اللوحة وأدخل الجميع وأبقى الرسام أمام باب لوحته.