{الشاشات المضيئة}.. صادرت {عاشوا عيشة سعيدة}

منصة 2020/12/21
...

حسين فرحان
 
من وحي خيالهن أو من بعض تجاربهن كانت الجدات تروي لنا حكايات ما قبل النوم، فكانت تعابير وجوههن ومضمون حكاياتهن آخر شيء نختتم به يوماً حافلاً بحراك طفولي ملؤه النشاط والحيوية، إذ لم يكن هناك شيء اسمه (موبايل أو تاب أو آيباد)، ولم يكن هناك ما يغذي أدمغتنا بالمعارف سوى المدارس وبالخيال سوى الحكايات.
مضت الأعوام تلو الأخرى ولم يحدث في هذا المجال سوى تقدم بسيط كان يزداد شيئاً فشيئاً ليجعلنا قادرين على المواكبة له من دون خروج عن المألوف أو مغادرة الماضي بطريقة الهجرة الى المجهول، بل كانت المغادرة لطيفة تحتفظ الذاكرة فيها بتفاصيل ما اعتدنا عليه مع حنين يلازمنا للعودة، وقد كانت العودة متيسرة من دون عناء أو شقاء حيث بقايا الألعاب والحكايات وطرق التدريس وما تبقى لنا من جدات لم تغادر ذاكرتهن تلك القصص.
كنا نكتشف بمرور الوقت وبلوغنا أعماراً معينة أنَّ الشخصيات التي كانت تخيفنا في مضامين القصص ما هي إلا وهم وخيال وقد تلاشى الخوف منها مع شيء من النضج الذي تفرضه المرحلة العمريَّة، فلم تكن الأشباح أو الشخصيات الاسطورية لترعبنا طيلة العمر بل إنها تتلاشى - -بهذا المعنى من مخيلتنا- لتتحول الى ذكرى جميلة تصحبها ابتسامة.
اليوم ومع هذه الثورة المعلوماتية والكم الهائل من المحتويات الإعلاميَّة التي تقدمها آلاف القنوات الفضائيَّة ومئات المواقع الالكترونيَّة التواصلية منها والترفيهيَّة وغيرها، تتراءى لنا محنة العقل البشري وهو يخوض غمار هذه الفوضى، وخصوصاً عقل الطفل الذي لم يعد يلتفت - كما كنا- لحكايات امرأة عجوز تجعل آخر ما يطرق سمعه عبارة: (وعاشوا عيشة سعيدة) ليغط بعدها بنومٍ عميق، الأمر مختلف تماما فالشاشات المضيئة الملونة ومحتوياتها غيرت هذه الطبيعة التي مارست البشرية طقوسها منذ آلاف السنين، فأصبح بإمكان الطفل أنْ يطلع في اليوم الواحد على مئات المحتويات من دون النظر لمسألة الوقت أو سائر القضايا المتعلقة بطفولته مع غياب واضح لاهتمام الأهل بهذا الجانب، فالبعض - بل الكثير - من الناس يرى في استخدام أطفالهم لهذه الأجهزة فرصة لراحة البال والتخلص من مشكلاتهم في ما بينهم او التذرع بفائدتها أنهم لا يخرجون إلى الشارع، فهل ان هذه الاعذار والتبريرات هي مما يوجب تركهم بهذا الشكل؟ وهل ان التخلص من إزعاجهم اهم من تركهم في هذه البيئة الملغومة؟
قد يجيب البعض بان الزمن قد تغير وأنَّ هذا الواقع فرضته ظروف عالمية، وقد يجيب البعض بأنَّ العالم كله قد أصبح لا يستغني عن الانترنت، وقد يجيب آخر بأنه قد أصبح من متطلبات الحياة بل إنَّ التعليم مرتبط به. ولو سلمنا جدلا بهذه التبريرات وان هناك منفعة ومصلحة فينبغي أن نتساءل: هل فكرنا يوماً بماهية هذه المنفعة في تلك الأجهزة، وهل هي مطلقة، وهل من ضمانات بأنَّ المحتوى الذي يشاهده الطفل مناسب له؟ فإنْ كان الجواب نعم، فهذا يجانب الحقيقة، وإنْ كان بالنفي - وهو الواقع- فما هي الاجراءات المناسبة أو الحلول الوسطية التي توفر للطفل أجواءً آمنة لمتابعة ما يجري ومواكبة هذا التطور؟
لا يسع المجال لذكر الحلول من الجانب الفني أو التقني ولكن تجدر الإشارة إلى وجود حلولٍ كثيرة لعل أهمها ما يسمى بـ(الرقابة الأبويَّة)؛ وهي باختصار شديد عملية ربط البريد الالكتروني لجهاز الطفل بالبريد الالكتروني لجهاز أحد الوالدين، وهي طريقة لا تستغرق سوى دقائق معدودة يمكن تعلمها من خلال الشروحات المقدمة على (اليوتيوب) ومن ثم تطبيقها، وبذلك تضمن ان الطفل لن يشاهد إلا المحتويات التي تناسب عمره ولن يقوم بتنزيل أية تطبيقات أو ألعاب إلا بموافقة الأب أو الام.. وهذا أقل ما يمكن أنْ نقدمه لأطفالنا ما دمنا غير قادرين على حجبهم بشكل نهائي عن هذا الواقع الجديد الذي اختفت فيه حكايات (كان يا ما 
كان).