المنهج!

منصة 2020/12/22
...

جواد علي كسار
بكلام مختصر؛ المنهج نظام المعرفة والطريق الواضح إلى تحصيلها والتعبير عنها في الوقت نفسه، وفق متبنّيات فكرية محدّدة، وبذلك هو أشمل من مجرّد كونه أدوات لضبط البحث، إذ هو يدخل في طريقة التفكير بالصميم.
المنهج في اللغة، الطريق الواضح، واستُخدم بنفس معناه في قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (المائدة: 48). في الحضارة الإسلامية مارس علماء المسلمين المقولة المنهجية في مختلف ضروب المعرفة. وعندما تبلور مصطلح المنهج في معناه واستخداماته الحديثة مع بداية عصر النهضة الأوروبي لم يبتعد عن دلالته اللغويَّة، بل بقي المعنى الاصطلاحي متّصلاً، ومنتزعاً من المعنى اللغوي.
بيد أنَّ ما حصل مع الضغط المتزايد لاتّجاهات الحداثة بالأخصّ اتجاهات المدرسة الفرنسيَّة في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، وظهور من أطلقوا عليهم «فلاسفة الرغبة» في فرنسا، وصعود موجة المثقّفين المسلمين والعرب الناقلين عن الغرب، بدأت فوضى المنهج تضرب بأطنابها في ساحتنا المعرفيَّة، حتى شغلت المقولة أصحابها عن إنتاج المعرفة ذاتها، بحيث خرج علينا ناقد في الساحة العربية كمثال، من وزن هشام شرابي (ت: 2005م)، وصف أبرز أصحاب المشاريع الفكرية المعاصرة أنهم باحثون عن المنهج، أكثر من أنْ يكونوا أصحاب نظرية.
الأطروحات الجديدة والمشاريع التي طغت في العالم العربي خلال العقود الأخيرة، أغلبها نزعات واضحة في فوضى المنهج، حتى أصبح من اللازم على المثقّفين في ساحتنا أنْ يختزلوا ثقافتهم إلى مفردة واحدة، هي: وعي فوضى المنهج!
إذا أردت مثلاً أن تطلّ على أعمال فكرية لمثقّفين من قبيل عبد الله العروي ومحمد آركون ومحمد عابد الجابري كما غيرهم كثير، فعليك في البدء أنْ تحيط أولاً بشتراوس والتوسير وفوكو ودريدا وباشلار ورولان بارت وغيرهم.
في ضوء هذا الواقع تستطيع أية عملية نقدّية لاستقراء الاتجاهات المعاصرة في الفكر العربي، أنْ تنتهي إلى قناعة مفادها، أنّ أغلب أصحاب هذه الاتجاهات، ما هم إلا موظفون إجرائيون في المنهجيات الغربية الغريبة عن أرضنا وحاجاتنا، ومشاريعُهم الفكرية بهذا التحديد امتداد وظيفيّ لما تهدف المنهجيات الغربية تحقيقه. حين تأخذ بنظر الاعتبار ملاحظة أحد النقّاد من أنّ ساحتنا الثقافية أضحت بفضل هؤلاء أكثر معرفة وإحاطة بهيدجر وشتراوس وفوكوياما ودريدا من الساحة الثقافية الغربية ذاتها، فإنَّ ذلك يعيدنا لملاحظة نابهة هي أشبه بالعظة صدرت من مثقّف فرنسي هو فرانسوا شاتليه، يقول فيها: «الطريف في الموضوع وجود عدد من المثقّفين في البلدان ذات الثقافة الفرنسية، يسعون إلى تبني مفاهيم كنّا نحن نتسابق للتخلص منها...، ويعانون من عجزهم عن صياغة مفاهيم نسعى نحن إلى التخلّص منها».
المسافة بين المنهج وفوضى المنهج، هي عينها التي تصل بين من يريد أنْ يضعنا خلف العربة نعيش التقليد دائماً، وبين من يريدنا أنْ نكون في المقدّمة نعيش الإبداع والابتكار.