نقرةٌ واحدةٌ

ثقافة 2020/12/22
...

مهند الكوفيّ
قرأت اليوم في أحد الإعلانات، عن حفلة موسيقية، لذِكرى رحيل الموسيقار الروسيّ العالمي الكسندروفيتش فيديرنيكوف. لم أستطع أن أحصل على تذكرة الدخول؛ لقرب موعد الحفلة. تباع التذاكر في السوق السوداء بشكل غير رَّسميّ باستمرار. لا أرغب التذاكر السوداء، طالما أردت أن أحضر درسا روحيًا، والاندماج كليًا مع النقر على مفاتيحها السوداء. لا أعرف لمَ أحبُ تلك المفاتيح؟ أتذكرُ ما كتبه الشاعر عيسى مخلوف: «نَقرة واحدة على البيانو وتنهمِرُ الأمطار تتبدد الأحلامُ» كلما نقر نيكولاي لوكانسكي على المفتاح الأول. 
شَّاهدت الحفلة من الخارج، رَّغم انخفاض درجات الحرارة، في التلفاز الكبير المؤقت، الذي وضِع في الباحة الخارجيةمن مبنى السينما والمسرح. يتكون المبنى من ثلاثة طوابق، في الخارج عمودان من الرخام مصممان بتاجين، على الطريقة الرومانية القديمة، يتوسطهما باب خشبي كبير رافعًا رأسه حتَّى الطابق الثاني. 
من الداخل، أعمدة رخاميَّة، تشبه في تصميمها الأعمدة الخارجية، وتعاكسها في النظافة. مرتبة بشِّكل مربع حيث مكان الجلوس. تزيّن السقف منظومة إنارة كبيرة. وهناك على الأطراف بارتفاع المترين، مكان ذو طاولة ذهبية صُمّمت للطبقة البرجوازية وأعضاء مجلس الدّوما الروسيّ. من غير الطبيعي أن يجلسوا كما الناس الاعتياديين المهتمين للمكان الذهبي، أكثر من اهتمامهم بالموسيقار العالمي نيكولاي لوكانسكي. وفي مقدمة القاعة الكبير حيث المسرح الكبير، يجلسُ نيكولاي مرتديًا بِزَّة سوداء ذات طرف طويل، فكرتُ لوهلة أنهُ مستاءَ منها، ولكن، هكذا تجري العادة. على الطرف الأيمن من المكان رسّمة لبيتهوفن مثبتة على مَسند خشبي.. وصل مقعد البيانو. بعد ثانية تقريبًا وصل طرف بِزَّتهُ السوداء. حرك يداه بصورة ملفتة وجنونية، شعرتُ لبرهة، أن يديه مصنوعتان من الخشب الذي صنع منه البيانو الخشبي الأسْوَد، وهو يتحرك بشكل آليّ فاضح. رأسهُ يتحرك كلما تحركت المَطارِق.
صوتُ البيانو، يشبه إلى حدٍ كبير قصيدة التفعيلة. الفرق أن القصيدة تحتوي على حروف، والبيانو يحتوي على لوحة مفاتيح ومطارِق! لا يقبل النقرة العشوائية أو التلقائية كلُ شيء برتابة عالية، كما هو الحالُ في قصيدة التفعيلة. 
يحتاج الشاعر، أن يضع الحدود اللازمة، والسير وفق خطى موسيقية محكمة. نقرةٌ واحدةٌ على البيانو، تخرجُ عن الوزن الموسيقي المُرفق.
 الضيوفُ جالسون، بطريقةغريبة، يرتدون اللفام (الماسك) كأنهم أطباء! يُتابعون محاضرة حول كيفية إدخال الموسيقى إلى صالة العمليات بدلاً من إدخال الأدعية الدينية! محافظين تمامًا، على التباعد الصّحي المطلوب.
يجلسون في الأعلى، ضيوف الدرجة الأولى. يلبسون القبعات السوداء، يُدخنون السيجار الكوبيّ، رَّغم اللوحات الحمراء «التدخين ممنوع» يشربون النبيذ الأحمر، وقطع من رَّقبة الخنزير المشويّة. 
بدأ يُحرك يديهُ بصورة سريعة، يعزفُ مقطوعة رقم 32 من تأليف بيتهوفن. لأول مرَّة أسمعُ مقطوعة موسيقية بهذه العشوائية المُرتبة! تتجمع في رأسي، مثل كلمات مزعجة للغة لا أجيدُها. تحاولُ النوتات الموسيقية أن تزيح ترانيم الموسيقى العالقة في ذاكرة الرجلُ الشرقيّ هذا، والمعتاد على سماعِها، واستبدالها بترانيم غربية متحرِّرة. ربما ينزعجُ فالح حسن، من هذه العملية التجديدية! أو يعترضُ عبد الرزاق العزاويّ، على الانخراط بالتجربة الموسيقية الغربية! كل شيء يختلفُ بين الشَّرق والغرب، حتَّى في الموسيقى. 
يُألف الموسيقار العربيّ منتجهُ الموسيقيّ على أساس حدود النَّص المكتوب! بمعنى آخر، متى ما ينتهي النَّص الغنائي تنتهي الموسيقى! بينما الموسيقى الغربيّة تبدأ قبل النَّص بعقود، وتنتهي متى ما ينتهي صَّفير الرياح في شبابيك مدينة «سيبيريا» الروسية طيلة الشتاء! لذا، الموسيقى كما الشِّعر، وصلنا لمرحلة تجدد الشِّعر! ولم نصل بعد لمرحلة انفصال الموسيقى عن الغناء العربيّ. بمعنى، لا يمكن أن تكون للنَّص الغنائي علاقة بالفن الموسيقي. كما لا يمكن –على سبيل المثال- أن نجمع بين قصيدة شِّعرية كبيرة مع غناء رديء! أوْلى ألا يُؤطّر الشِّعر أو الموسيقى، بأشياء تفقد جمالية النَّص ومداه. 
بعض الشّعراء يخنقون نصوصهم بأصواتهم السيئة، وتركيزهم على إيصال الفكرة فقط! كما الحال في الموسيقى، يجب أن تتحرر بشكل غير مفهوم! عرفتُ أخيرًا، إن الأصوات الّتي لا نفهمها، هي التي تأخذنا إلى عوالم ثانية بعيدًا. والأصوات التي نعرفها، هي أصواتنا التي لا فائدة منها. 
نَقر نيكولاي، المفتاح الأسْوَد الأخير يشبه صوت الناقوس في كاتدرائية نوتردام، الذي ظَلَّ يَرنّ حتَّى انتهاء الحريق. انحنى أمام تصفيق الجمهور، معلنًا إنهاء الجلسة، وأوتار البيانو ما زالت تترنم! هذه هي الموسيقى، ننتهي ولا تنتهي.