لن نموت بسبب الكاروشي

منصة 2020/12/27
...

 عفاف مطر
في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الصناعيَّة كانت المجتمعات بصورة عامة في أوروبا مقسمة الى قسمين، الأسياد وهم ملاك الأراضي، والفلاحين. ملاك الأراضي لم يكن عليهم العمل أبداً، هم يجنون المال فقط، بينما على الفلاحين تقع كل الأعباء، الزراعة ورعي الماشية والصيد..الخ، والفلاح مقابل عمله يحصل على أجر بسيط جدا
ً، وفي أحايين كثيرة لم يكن يحصل على أي أجر، وإذا ما اشتكى الفلاحون من قلة الأجور والعوامل الاقتصادية الصعبة، كان أصحاب الأراضي يتهمونهم بالكسل، ويعزون سبب فقرهم الى كسلهم هذا، لهذا روجت الكنيسة حينذاك، أنَّ العمل مقدس، ليس على الراشد فحسب، بل وحتى على الأطفال؛ 
وأنَّ الفلاح كلما زادت ساعات عمله كلما اقترب من الجنة، في انكلترا على سبيل المثال، كانت ساعات العمل حينها تتجاوز الخمس عشرة ساعة في اليوم. هذه الظاهرة التاريخية ما زلنا نرى أثرها في البلاد المتقدمة، فحتى لو صار لدى العامل أو الموظف مالٌ يكفيه بقية حياته، إلا أنه ما زال يعمل ساعات إضافية. بعد قيام الثورة الصناعية واكتشاف الآلة، كان من المفروض أنْ تنقص ساعات العمل لدى العامل الى النصف، ولكن، ليس هذا ما حصل، إذ ظل العامل يعمل بعدد ساعات العمل نفسها، لأنَّ أصحاب رؤس الأموال سرحوا نصف عدد العمال، فأصبح نصفهم يعمل كما قبل اكتشاف الآلة بعدد الساعات نفسها، والنصف الآخر عاطلٌ عن العمل. في العام 2013 في اليابان توفيت اليابنية Miwa Sado عن عمر يناهز 31 سنة فقط، Miwa Sado كانت تعمل صحفيَّة في هيئة الإذاعة اليابانيَّة، وكان سبب وفاتها الإرهاق بسبب العمل، كانت قد عملت 159 ساعة إضافيَّة على عملها الأساسي في الشهر الذي سبق وفاتها، وكانت تكتفي بيومين إجازة في الشهر، وفي سنة 2006 توفي Senior Engineer في شركة تويوتا اليابانيَّة عن عمر يناهز 45 سنة فقط، كان يعمل 80 ساعة إضافيَّة في الشهر الواحد، وغيرهما كثر، وهذه الظاهرة، أي الموت بسبب زيادة ساعات العمل، منتشرة في الدول المتقدمة لا سيّما اليابان، ويطلق عليها Karoshi كاروشي، إذ من بين كل خمسة موظفين في اليابان، موظف معرض للموت بالكاروشي، الكاروشي يؤدي إلى الجلطات الدماغيَّة والسكتات القلبية والسرطانات والسكر والضغط وقرحة المعدة واضطراب النوم واضطراب العضلات وفي أحيانٍ كثيرة قد يؤدي الى الانتحار. وأثبتت الكثير من الدراسات العلميَّة نشرت على مواقع منظمة الصحة العالمية، أنَّ المهارات الذهنية يتدنى مستواها في حال القيام بساعات عمل تتجاوز الأربع ساعات فقط، وقد يصل الأمر الى ضعف في الذاكرة والخرف، وأنَّ من يعملون ساعات إضافيَّة لو حاولوا الاستمتاع ببعض الوقت في نشاط بسيط مثل التفرج على مباراة، لن يشعروا بالسعادة، وأطلق عليها Bertrand Russell في إحدى مقالاته بـ “المتعة السلبيَّة”، لأنَّ العمل قد استفد كل طاقتهم الإيجابيَّة. وعلى أرض الواقع تذكر بعض الدراسات أنَّ اليابان التي تعد صاحبة أطول ساعات عمل، يقل إنتاجها عن ايرلندا بنسبة 41 % التي يسجل متوسط ساعات العمل لديها 38 ساعة أسبوعياً.
إذنْ ليس بالضرورة أنَّ العمل الكثير يؤدي الى إنتاج كثير، بل إنَّ سياسة العمل الإضافي (الرأس مالية)، هو رداء جديد للاقطاع، وظيفته تسخير البشرية لخدمة الرأسماليين الجدد. في الدول العربية لدينا تخمة من الأسباب التي تؤدي الى الموت، الكاروشي ليس أحدها.