وقفة عند.. «الأكثر مبيعاً»!

منصة 2020/12/27
...

 ميادة سفر
​الأكثر مبيعاً؟!، الأكثر مشاهدة؟!، الأكثر متابعة؟!، ربما تكون هذه العبارات، وبامتياز، هي الـ «الأكثر انتشاراً» في عالمنا المعاصر، وتنطبق على كثيرٍ من الحالات، إنْ كانت كتباً أو أغاني أو غير ذلك، هنا يبدو مغرياً التوقف عند الكتاب الأكثر مبيعاً، والأكثر انتشاراً، والتأمل فيه والحديث عنه، والغوص في حيثياته جميعاً، لأنها عبارات تثير «لا سيما في عالم الكتاب» الكثير من علامات الاستفهام، حول القيمة المضافة المعرفيَّة والعلميَّة التي يقدمها كتاب وُسِم بأنه الأكثر مبيعاً. 
​حاول بعض المشتغلين في عالم النشر الترويج لفكرة «ما يطلبه الجمهور» والتي ارتبطت تلقائياً مع مصطلح «الأكثر مبيعاً» التي راجت بشكلٍ مخيف في العقود الأخيرة، حيث وضعت بين أيدي القراء كتباً عديمة المحتوى في كثيرٍ من الأحيان، على حساب مؤلفات عظيمة في مضمونها وفي اسم مؤلفها، فكان أنْ انتشرت على رفوف المكتبات وأرصفة الطرقات عناوين وأسماء لكتاب 
وصفوا بالروائيين جذبت فئة 
من القراء تبحث عن كلام منمق وجمل خفيفة بسيطة، مع خلوها من أية فكرة جوهريَّة، أو حدث 
بنيت عليه، أو حتى معالجة لقضية ما. 
​الكتب التي تكون الأكثر مبيعاً، والتي تترجم لعددٍ كبيرٍ من اللغات الحيَّة في العالم، وتطبع منها ملايين النسخ، ليست بالضرورة الأكثر عمقاً، وهذه حقيقة لا بُدَّ من الاعتراف بها والوقوف عندها!.. إنَّ صناعة الكتابة وعالم الكتاب مثلها مثل صناعة المثقفين، فكما أنَّ هناك روافع ثقافيَّة تعوّم بعض الأسماء من أشباه المثقفين لتضعهم في النسق الأول، كذلك الأمر هناك روافع ثقافيَّة تروج للكتاب، وتمتلك طاقات مادية وقدرة على عبور الحدود والقارات والعقول!.. ثمة كتب مشهود لها في عمقها وقيمتها سواء في مجال الأدب أو الاقتصاد أو السياسة أو الميثولوجيا، ولم يكتب لها أنْ تكون الأكثر مبيعاً، ولم تحظَ بهذا الشرف رغم أنها تحمل توقيع كبار الكتاب والمفكرين، فقط لأنها لم تلقَ رضا ودعم تلك الروافع، وهذا واقع موجود في كل دول العالم من دون استثناء.
​تلك الروافع التي من شأنها إعلاء شأن كتاب ما، تبدو في أكثر من هيئة ومظهر وأداة، مثل الترويج والتوزيع والتسويق للكتاب من قبل دور النشر إذا كانت تمتلك سطوة المال من جهة، ومن جهة أخرى، يلعب اسم الكاتب دوراً، في حال كان قدم كتاباً أو اثنين أو ثلاثة ولقيت رواجاً واستحساناً وقبولاً من القراء.. هنا تتهافت عليه دور النشر، مشيرة في زاوية على غلاف الكتاب عبارة «صاحب رواية كذا» على سبيل المثال، في محاولة لجذب القارئ وبالتالي بيع أعداد كبيرة من النسخ، ووضعها في الركن المخصص للأكثر مبيعاً في المكتبات، من دون وجود أية إحصائية تؤكد هذا، ودونما العودة للقارئ لتبيان رأيه في هذا المؤلف الجديد!.. لا بُدَّ من الاعتراف أنَّ كثيرين منا اقتنوا كتاباً فقط لمجرد الغواية التي يحملها اسم كاتبه، لكنَّ أحدنا لم يتمكن من متابعة قراءة الصفحات الأولى منه والأمثلة كثيرة!. 
​في المقابل يسهم المنع والحظر من قبل المؤسسات الدينية والسياسية في الترويج لكتاب ما، وجعله في قائمة الكتب الأكثر طلباً ومبيعاً، مثل كتاب «آيات شيطانية» لـ سلمان رشدي!.. فعندما منع الكتاب في كثيرٍ من الدول الإسلامية وهدر دم مؤلفه، سال لعاب دور النشر وتهافتت على ترجمة الكتاب إلى عددٍ من اللغات في العالم وطبعت منه ملايين النسخ، تماماً كما حصل مع «شيفرة دافنشي» لـ دان براون، وعلى الرغم من أهمية الرواية، إلا أنَّ هناك مئات الروايات الأكثر أهمية من حيث القيمة الفنية والأدبية والعمق وخطوط السرد، لكنْ لأنها لم تتوافق مع خط المؤسسة الكنسية ولم ترض عنها، والكلام هنا عن «شيفرة دافنشي» حصل ما حصل لجهة جعلها من أكثر الروايات طباعة ومبيعاً.
​في ظل الازدحام المخيف بكتبٍ مبعثرة بشكل عشوائي، بلا محتوى وبلا مضمون، لا تحمل إلا عناوين جذابة حيناً، أو ممهورة بأختام كمثل «يحظر بيعه للرجل» أو «للنساء فقط»، بشكل يستفز النساء والرجال معاً ويحرضهم على شرائه.. في هذا المناخ الأدبي، وفي هذا المشهد الثقافي، من يتذكر مثلاً «آلام فرتر» لـ غوته، «مرتفعات ويذرنغ» لـ إيميلي برونتي، أو 
«ذهب مع الريح» لـ مارغريت ميتشل، فيعيد طباعتها ويسوقها ويروج لها؟!.. من يتذكر مثلاً «الأبله» لـ دوستويفسكي؟!. 
​«الأكثر مبيعاً».. عبارة تحمل من المواربة والمخاتلة ما يكفي لجعلها رافعة متعددة المظاهر الخداعة التي يمكن لها أنْ تجعل من الغث والرث صورة بديعة لا تتكرر!.. وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أنْ يكون «الأكثر مبيعاً» هو الأكثر جودة وعمقاً، وهنا تكون مسؤوليَّة القيّمين والمهتمين، على وفي، المجال الثقافي والإبداعي لإعلاء شأن الأكثر قيمة معرفيَّة وفنيَّة، والابتعاد عن أولئك الذين أطلق عليهم كولن ولسن «روائيو التكسب»!.