شجرة مريم أو.. انزلقي أيتها السنة المأتمية

ثقافة 2020/12/27
...

زعيم نصار
في سنتي الشاحبة التي تمضي بعد أيام، 
لتدخلَ سجلَ الأفعى الزائلة، 
استجابتْ لي مرآةُ بيتي الطريَ المعرّى، أن أرى نفسي عصيّةً على الموت،
مشيتُ على حبل البداية والنهاية وكنتُ بينهما ألعبُ،ولأنني رأيتُ رأسي يدور في مدينة بلا صور ولا وجوه، ولا ملامح، لقد دكتها البنادق والمدافع والطائرات في كلّ سنوات حياتي، أتاحتْ لي المرآةُ، أن أفتح طرقاتها أمام مخيلتي، عبرتُ مخالبها، بيوتها الهرمة، المسالخ، والسراديب، طوابق إسمنتية تحيطها جدران كونكريتية، تسكنها حيوانات بلا خطايا، سمعتُ كلاباً تعوي، رأيتُ على الأرصفة أيادي مبتورة، فسألتُ:
تحت أيِّ كوكبٍ أنا، تحت أي برج، 
تحت أيةِ نجمة بيتي، 
أو جسدي المدمّى،
ما هذا الطيش،
ما هذه الطيور على الرؤوس؟
من يخلّصني من
 منقار الواقع الجارح 
من وهم القبيلة؟
شممتُ روائح الدم في الأزقة، مررّتُ بشعراء خائفين في المقهى، وعلى الرصيف الآخر، يسيرُ حشدٌ من المسلحين، أمامي صبايا يتضورن جوعاً، ويتوسلن تحت موجة صفراء من الفقر والطرد، اخبريني أيتها المرآة ما إسم هذه المدينة التي استحقتْ كلّ هذا الجحيم، لقد فقدتُ ذاكرتي، وتهتُ، فلم استطع ان اتسلّق اسوارها المحاصرة بالذئاب، ولم أجد أحداً يدلني على الطريق،
قطفتُ ثمرةً تتدلى فوق جرّةِ الرماد، جثّةً مسلوبة الثياب، محملَ عروس يحترقُ، جدائلَ مقصوصة، ثديّاً عثروا عليه في خزينة الخليفة، بعد أن سلّم مفاتيحها، بعثّر أعشاش الطير، وأشعل النار في الأشجار، أعطى المدينة تراباً كما توعّدها، وها نحن نرى يرابيع الصحراء تهجم لتفترس ما تبقى لنا من الأيام.
تهتُ في سنتي الشاحبة التي تمضي بعد أيام، 
لأدخل سجل الأفعى الزائلة، 
يا نفسي، أيتها الشعلة، اقتربنا من شجرة مريم، دعيني أرى كفيّكِ، دعيني أرى اصابعكِ، لنلامس جذعها، احبّ الطريقَ التي تجعلُ أقدامي تهربُ خارج المعنى، أحبّ متاهة النهار، تجعلني غير متأكدٍ من الحياة التي أتنفسها، أشكّ انني على الطريق التي تؤدي اليها، لقد حاولتُ الطيران مراراً الى النخلة الوحيدةِ في العراء، كنتُ أتخيّلُ ان أيامها تراني، وأنا أطيرُ أمام المرآة، فتفنّنتُ بطيراني، اجنحتي برعتْ، تجرحُ الهواء، الرياحُ ما زالتْ هي رأسُ الأفعى، تلامسُ حريتي، تصعدُ بيّ مثل موجةٍ شاهقةٍ الى النجوم، صرتُ وميضاً بين يديها، لا أطير الا بأوامرها، جمرةُ صمتٍ بين شفتيّ، مفتاحُ طيراني يدورُ في قفلٍ، فأطيرُ من أجلها، اظهرُ واختفي، لم أعد حرّاً، حتى وأنا أعلو في المساء المقنًعٍ بالمظلات التي نجلس تحتها، تذّكرتُ عواء الكلاب في القرية، و أنا أتركها الى الأبد، أبدو مبتسماً في المقهى، كي يراني أحد المارة، انظر لحياتنا بعين صقر، يرى اننا نستحق أن نحيا في مدينة المراثي، نحن الذين علّمنا الموتُ و الكارثةُ أوهاماً تدفعُ بنا الى درس السنة الشاحبة، كي نتصفح كتاب النفايات، وننسى كيف مشينا حفاةً في حوش الدار، ننسى حظيرة الأغنام، و كومة القشّ، والمناجل المعلّقة كزينة على الجدار، المشهد يخلو من التوتّر، والمدينة شاحبة كما عهدناها، وقد تعمّق الإحساس بالقرف، لقد فقدتُ ذاكرتي، وتهتُ، سألتُ مرآتي:
كم طرتُ لأتخلّص من الخفافيش،
كم غطيتُ عينيّ بجناحيّ، 
أبصرُ لأطير، 
وتطيرُ خلفي أخرى، 
أحلّق وأتلوى، أطيرُ، 
من أدخلني
وهم الساحة العامة
من يخلّصني أيها الجرح- الصدمة؟
من يخلّصني من وهمها؟
مشيتُ على حبل البداية والنهاية، وكنتُ ألعبُ بين أسنان سنتي، تفاحتي على الشجرة، جعلتْ لي أجنحة، أخشى ان أفقد اغصانها التي احطّ فوقها كلّ ليلةٍ، مروّضتي التي أمسكتْ بطرفِ الخيط المشدود لقلبي، وهو في الطريق الى الفضاء الذي أصيب بالجنون،
كانتْ نجومي أقوى، فأهربُ منها لأضيء، مجرد لحظات من الرغبة، لتخفيف موجة الرياح السوداء، من قبل لي طيران، نثرتُ فيه كلماتي، اكتبـُـني لأقاوم اللا جدوى والعبث في هذا العالم الذي يغرقُ في بحرِ العدم، واستعرضُ موتي الطاعن في الحبّ والجمال الذي تتسترُ على فضيحته المنصات.
النهر يجري كما رأيناه أول مرّة، ولم نعرف انه الزمن، بهذه الحالة من الصفاء والسكينة دخلنا المدينة، في الطريق صادفتنا عجوز تتظاهر انها الغزالة التي ننتظر، عطرها شبح تائه، ترفرف حوله الأجنحة، و ينامُ فوقه سريرُ الهواء.
نحن نعرف انهم ينظرون لنا كصقور من الريف، وصلتْ من الشرق، بمعنى اننا نازحون. فسألتُ نفسي:
هل كان طيراني
للتمويه على خساراتي
قبل صعود الموت على
المنصات السيئة الصيت؟
مشيتُ بين طيتيّ البداية والنهاية وكنتُ ألعبُ على حبلِ حياتي، نشرتُ ليالي أيامي، فلم أجد أجمل من ليلة غبتُ فيها عن العالم، حلمتُ ان قلبي يجفّفُ آلامي المتهادية، ألماً، ألماً، ويتدحرجُ نحو شعلة الحريّة.. فانزلقي أيتها السنة المأتمية،
قضيتُ لياليَ ثلاثاً قبلها أتدحرجُ من قمةِ الجبل الى الغابة، لأصل الى زيتونةٍ وحيدةٍ في الوادي، تجعلُ بيتنا ينسى الندم الذي فاضَ على السرير بعد ان وصلنا الى ذروةِ السمّ المقذوف في كهف العالم.
من يخلّصني أيها الجرح- الصدمة
 من كومة المخالب
ومساميرها على جسدي،
من يخلّصني من وهم الكهف وظلاله؟
طافَ بيّ النهرُ على موجتكِ التي دفعتني الى ساحلِ الحياة، وهي على وشك الظلام، فتركتُ ليالي أيامي غاطسة في بئر حياتكِ أيتها السنة التي ارتكبت معي الخطيئة،
ربما رمتْ بنا على ضفاف جنائنهم الموجات، 
مرّةً هربنا من الحرب نحو الأهوار،
مرّةً هربنا من موجة الطاعون، وهي تدفع بنا الى الهجرة،
مرّة هربنا من سوط المماليك،وانحدرنا مع الأسماك المهاجرة بعد كل طوفان،
كلّ ليلةٍ كنتُ أقصّ حكاية الفقدان على المرآة، وأدسّ في أذني خرزة السؤال، كيف أفرّ من الحرب، واستوطن بين رفيف الأشجار، كلّ مدينة قفص، ما زلت أتذكّرني كصقرٍ طرتُ، تركتُ أغصان زيتونتي التي كانت تنظر الى المياه، وتتأمل انجراف النفايات فسألتُ حياتي: 
هل وقفتُ أمام خفّاش المدينة، 
مدينة المراثي
وسألته من أنت، و من تكون،
هل سألته،
أين ذاتي، و هل هناك ذاتٌ سوى الطين؟
مشيتُ على حبل البداية والنهاية، وكنتُ ألعبُ كالبهلوان بين فؤوس سنتي، بعدها طفتُ العوالمَ، عالماً، عالماً، من خروجٍ إلى خروجٍ، كم نمتُ، و كم صحوتُ في قلب السماء، كم صرختُ: من أنا، و من أكون، لماذا أريد، هل حريتي موتاً أموتُ، ولماذا أموتُ؟ ولأنّ الأفعى نصف حياتي، و لأني كلما التفتُّ، أسقطُ، و كلّما سقطتُ، أصعدُ بهنّ، لم يكن الفجرُ بعيداً، سحبتُ الغيومَ إلى الحجرات، وأدخلتُ النومَ في النهار، وجعلتُ نصفَ الأرضِ أمامهنّ، وأخفيتُ نصفيَ الآخرَ في النبع، فرأيتُ العصافير في الحجرات قد جُنّتْ.
من يخلّصني أيتها الأفعى الشاحبة،
من وهم مسرحكِ
من يخلّصني من الجرح- الصدمة؟
من يخلّصني أيها المسرح الذي أوهمني
وقد كنتُ ألعبُ على حبل البداية والنهاية، حينما وقفتُ وكان الغمام بيننا، سألتـُكَ: ماذا تقول أيها الخفّاش، عن شوارعكَ الداكنة، وسماواتكَ المظلمة، و فرائس الليل، حفلاتكَ التنكّرية التي يظهر فيها سحرة و مهرّجون، ونساء يلبسنّ الأقنعة؟.
الصقر الريفيُّ غادر شجرة مريم في غابة السؤال، و استوطن المدن، الأقفاص، فخاطت له المرآةُ ما يستر العريان، لمدينة المراثي وصل، و لنصف تفاحةٍ وصل السؤال، قرفتُ..
وقد تعمّق الإحساس بالقرف، تقيأتُ على ظلامها، غادرتها، غادرتُ كتابَ النفايات، فقدتُ ذاكرتي، وتهتُ: 
في سنتي الشاحبة التي تمضي بعد أيام، 
لتدخل سجل الأفعى الزائلة،
أيتها الشجرة الجديدة أنا مفتاحكِ كي تكوني معي، كم من الصبايا عرفتُ، كم هدرتُ من الأبناء في طيّات سريري، كم سهرتُ عبثاً، منحنياً على الهواتف، من اجل ان تكوني أميرتي، صرتِ قمراً فوق منامي، خرجتِ من الغسق، نهضتِ مستعدةً مثل موجةٍ، تفيضُ على جسدي، من دون أن أركب البحر، صرتِ لي الموجة التي شممتُ شعاعها،
ابحرتُ بين خطوط كفيّها، قرأتُها طيّةً، طيّةً، تبصّرتُ، اصبحتُ عرّابها، بحّارها، عرّافها، فرأيتُ أيامها في السنة الآتية، وهي تحتلُّ حياتي كعاصفةٍ، تقودني من يدي الى عمق الينابيع تحت الأشجار،
حينما تحتلُّ قلبي صورةٌ واحدةٌ من هذا العالم، صورةٌ لصبيّة السنة الذهبية القادمة، لثمارها الناضجة، هذا يعني ان العاصفةَ احتلّتْ حياتي قادمةً من غاباتِ الأرز تبحثُ عن بذرةٍ زرعتها في أعماقي،
بذرة الموت
بذرة الخلود
أثمرتْ صورةً واحدةً لقمرٍ يجلسُ وحيداً تحت نخلة في حدائق العمر المباح للوباء.
أيتها الشجرة أنا مفتاحكِ، وقد جاء صوتـُكِ ليّناً مثل طائرٍ من عسلٍ، يطيرُ بقلبه من عاصمةٍ الى أخرى، يحطّ، ليطبعَ قبلاتَهُ على قصيدةِ فقدان في كتابٍ مفتوحٍ بين يديكِ، انفاسُكِ موجةٌ اثر موجة، تحملُ النظرات، الكلمات، الاجنحة التي ترفرفُ فوق وجهي، هي روحُكِ التي تتنفسُني، كنّا صوتاً واحداً عانقَ نهارَ حبٍّ تحت الشمس، فامتزجتْ سماؤُهُ مع ساقيتي، وسال حتى وصل الى ينبوعكِ أيتها الشجرة، نخلة مريم العالية، 
فانزلقي أيتها السنة المأتمية.
نهاية كانون الأول 2020