قصيدةُ النثر: التشبيكُ الشعريّ

ثقافة 2020/12/28
...

محمد صابر عبيد

"فن التشبيك" هو فن تراثي لدى بعض الشعوب التي لها تقاليد عريقة في فنون الصناعات اليدوية الفائقة الجودة والجمالية والإتقان والبراعة، يستخدمُ فيها مادتان رئيستان هما الزجاج الملون والخشب، بطريقة خالية من أي مواد خارجيّة أخرى كالمسامير أو الغراء أو غيرها، لذا سميت طريقة الصناعة "التشبيك"، أي تشبيك الزجاج بالخشب على نحو تتعاشق فيه المادتان لإنتاج تشكيل بالغ القوة والتماسك والديمومة والجمال بأشكال مختلفة ولأغراض متنوعة، تنتهي إلى تشكيل رائع يتّسم بمجموعة من الخصائص الفنيّة بالغة الكفاءة والصنعة، تندرج في سياق الفنون التراثية الشعبية ذات المهارة الخاصة.

نظنّ -على صعيد تشبيه هذه الصنعة اليدويّة الماهرة بالكتابة الشعريّة- أنّ قصيدة النثر في جوهرها هي فعاليّة تشبيك بين "الكلام/الخشب"، و"التجربة/الزجاج الملوّن"، على النحو الذي يُنتِجُ جمالاً استثنائياً خالصاً في صوغ الكلام الشعريّ، لا يُتاح إلا لمن خَبِرَ هذه الصناعة وبرع فيها، ودُفِعَ إلى مضايقها، وجرّب لوعاتِها، واستطاب لذائذها، وخاض في مياهها الملوّنة خوضاً مغامِراً، وأتقنها إتقاناً بالغاً يضمن له قدراً مناسباً من النجاح والتفوّق فيها ليكون فارسَها وربّانَها وحاديها.
تقوم هذه الصناعة اليدويّة على أعلى درجات الحسّ المُرهفِ والدقّة والتماسك والحساسيّة والحِنكة حين يكون كلّ شيء في مكانه بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ، بلا تَرهّلٍ ولا عجزٍ، وهو ما يحتاج إلى عمليّة مرهفة لفعاليّة اليدَين، وحركة الأصابع، واجتهاد الخيال، ويقظة وجدانيّة عالية تتحكّم بأدقّ التفاصيل، بلا أيّ احتمال للخطأ وإنْ كان ضئيلاً، لأنّ نسبة الخطأ مهما كانت قليلة فإنّها تنسف العمل بأكمله، ممّا يوجب حرصاً عالي المستوى على الإحاطة بمتطلّبات العمل ومراحله وطبقاته وظلاله وضفافه إحاطة تامّة ومتقَنَة، من دون إهمال أيّ تفصيل مهما كان جزئياً وثانوياً وعابراً.
تنتهي الصناعة التشبيكيّة بعد هذه العناية الكبيرة إلى لوحة شديدة التراصّ والدقّة والتكامل والتناسب والحيويّة والجمال، وهذا هو بالضبط ما تحتاجه قصيدة النثر كي يحصل شاعرها على النصّ الشعريّ المنشود، الذي يستجيب لحساسيّة الشكل الشعريّ بتموّجاته وانعكاساته وحيويّة تكوينه البالغة التماسك، بعيداً عن "المسامير" و"الغِراء" والعوامل المساعِدة الأخرى التي تُفرَضُ من خارج طبيعة الكلام لتكون أجساماً غريبة على التشكيل، كي تحقّق ما يُشبهُ التماسك المطلوب عن طريق الفَرْض والإكراه والتعدّي والمجاوزة، وحينها يبقى الخللُ ظاهراً مهما بالغ الصانع في محاولة إخفائه وإضماره والتستّر عليه، بالمعنى الذي يفرض هذه الحساسيّة على مراحل العمل كلّها للوصول إلى الغاية النهائيّة الحاسمة، وقد بلغت القصيدة أوج تكاملها وتماثلت الصورة لتكوينها المطلوب على النحو المثاليّ الذي لا خلل فيه، وبغيرِ ذلك ينتهي الكلام إلى قولٍ ناشفٍ لا قيمة له ولا تأثير ولا أثر، وليس أكثر من كتلةٍ لغويّةٍ جافّةٍ مؤلَّفةٍ من حشدِ كلماتٍ متقاطعةٍ في سياقٍ واحدٍ يوهِم بالشكل 
الشعريّ. 
الكلامُ خشبٌ في أصل تكوينه حين يتلبّث كلماتٍ في حواضن المعاجم نائماتٍ بهدوءٍ نوماً سعيداً لا يختلف كثيراً عن هدوء الموتى، مثل طيور هاجدة محشورة في قبوٍ مظلمٍ لا حياة فيها ما لم يتحرّش بها أحد، ويوقظها من هجدتها، ويُطلِق سراحها كي تنطلق في فضاء الأفق بلا حدود ولا عوائق، لذا فإنّنا نقرأ كثيراً ممّا يَعتقدُ مَنْ كَتَبَهُ أنّه شعر  يندرجُ في محور قصيدة النثر فلا نحصل إلا على خشب أو مجموعة طيور ميّتة، لأنّ الكلام دخلَ حيّز الشعر من دون أن يلتقي بتجلّيات الزجاج الملوّن المكتظّ بالجمال والحساسيّة والحيوية والرشاقة، بحيث يكون هذا الزجاج المسكون بالحياة قادراً على تحويل الخشب إلى مادةٍ للحركة والفعل والإنجاز والرؤيا، يتلقّاها الآخر بوصفها كتلة من النشاط والتأمّل والتأثير والسحر لا تنتهي 
ولا تتأجّل.
لا تتعشّق أطراف الزجاج الملوّن في أماكنها من مسامات الخشب إلا بعد أن تشعر أنّها وُضِعتْ في أحيازها المناسبة اللائقة، فتلتحم بها التحاماً مصيرياً وكأنّها وُجِدتْ لها على نحو تلاحميّ عجيب، وهو ما ينطبق على قصيدة النثر التي تستقبل الكلمات وهي في أبلغ درجات شحنها وتوقّدها وعنفوانها ورغبتها في الأداء، فتغوص في باطن التجربة كي تحتلّ أماكنها الخاصّة وهي تنتظرها بشغفٍ كبيرٍ مليءٍ بالإلهام والفرادة، فيحصل هذا التلاقي والتفاعل والانسجام والتداخل والتماهي بأدقّ التفاصيل وأجلى الصور، بحيث تبلغ درجة التماسك بين الكلام والتجربة منتهاها الذي يحظى بقمّة الاندماج والصيرورة 
المثلى.
ولعلّنا نلاحظ هنا أنّ فعاليّة التشبيك في قصيدة النثر تجعلها عسيرة جداً على من لا يملك ذخيرة هائلة من الموهبة والمعرفة، ولديه تجربة عميقة في المرور الناجح بقصيدة الوزن أولاً ثمّ قصيدة التفعيلة ثانياً، ومن ثمّ يأتي إلى قصيدة النثر طالعاً من بحر الشعريّة العربيّة بطاقةِ عبورٍ عارفةٍ ومجتهِدةٍ ومغامِرةٍ، وهو يجيد لعبة الصولجان بأعلى كفاءة ممكنة، وقد تأهّلت أصابع يديه جميعاً كي تضع الزجاج الملوّن في جسد الخشب وكأنّها ممارسةُ صلاةٍ مكتظّةٍ بالخشوع، يدركُ تمامَ الإدراك المسالكَ والمضايقَ والدروبَ والخفايا والأسرار والمصائد ليعبرها بثقة وأمان وتحدٍّ، وصولاً إلى الصورة النهائيّة للتشبيك الكلاميّ الشعريّ وقد بلغت أوجَ جمالها.