عن البصرة التي تفرش مائدة وعيها وطيبتها

ثقافة 2020/12/29
...

د. علي حداد
(1)
عُقِدَ في مدينة البصرة المعطاء ـ للمدة (24 ـ 26 كانون الأول الحالي) من هذه السنة التي هيأت آخر أيامها ـ للرحيل (ملتقى قصيدة الهايكو والنص الوجيز) تضمن قراءات شعريَّة لأكثر من أربعين شاعراً، وأوراقاً نقدية لعددٍ من النقاد المهتمين بهذا الشأن.
جاء هذا الملتقي في حين كنا أحوج ما نكون إليه ولأمثاله من المهرجانات والمنتديات، كي نكسر من خلالها سكونيَّة الظرف المستبد الذي أطبق على كثيرٍ من مفاصل حياتنا، بسبب (كورونا) وإجراءات الوقاية منها، والقلق الذي ألقته في النفوس والأجسام. وقبلها ـ ومعها - كثير من المثبطات التي نعاني منها في الراهن السياسي والاقتصادي المهيمن على الوعي والاشتغال والإنجاز المثمر في كل جوانب وجودنا الإنساني المبتلى، ومنها الجانب الثقافي الذي تلتقي جهات كثيرة على ما تتمناه له من الركود والاستلاب والتغييب والإقصاء.
شرع هذا الملتقى الأذهان لترى وتسمع وتجادل تجارب نصيَّة ذهبت بمنجزها نحو فضاء التجريب الذي لا ينبغي له أنْ يتوقف ما دمنا ندعي أننا أهل الكلمة والحرف الأول والقصيدة التي ما التاذت بظل الاستكانة على مرّ تاريخها البعيد والقريب، ذلك المدد الزمني الذي بقيت فيه الشعرية العراقية تجدد مساراتها، وتكاشف متلقيها بتجارب جمالية مضافة، كانت (البصرة) في كل حين هي موئل قدم بثها الواثقة الموثقة منذ (أبي نواس) المنهمك بوعيه التجديدي قاصداً به (بغداد)، ومعلناً تأسيس القصيدة على ميثاق حضاري، يباعد خطاه عن قيم البداوة وطللها (المحيل) الذي قضى مريدوها بأنَّ على الشاعر أنْ يقفَ عنده باكياً مستبكياً، وجاء أبو نواس فدعاهم إلى البديل الذي تنتشي به القصيدة وشاعرها ومتلقيها. ومنذ فنون الشعر الشعبيَّة البصريَّة المؤصلة التي غنت وأغنت، ومنذ شعر (البند) الذي رحّلته البصرة ـ بأريحيتها المعهودة ـ إلى ما حولها، ليدعيه سواها.
ولم يكن لحديث عطايا البصرة الإبداعية أنْ ينتهي عند (السياب) ابنها الذي أخذ بيد الشعريَّة العربيَّة لتلبس ثوب تجديد عاصف، شرّع نوافذ الوعي المغاير والساعي إلى تأكيد وجوده بمتن إبداعي يعلنه وينثر عطاياه لكل من أتى بعده مستجيباً لشهقة الإبداع في روحه.
(2)
كنت علقت على إعلان اتحاد أدباء البصرة عن نيته عقد ملتقى أدبي يشتمل على موضوعة (الهايكو) و(النص الوجيز) مبدياً تحفظي على الأول ومرحباً بالآخر، واضعاً لذلك مبرراته. ولم يكن يدور بخلدي أنَّ أريحيَّة الزملاء وسعة صدورهم ستكون هي الغالبة، فيدعونني، وأنَّ محبتي التي لا تذبل للبصرة وأهلها، ومودتي لأدبائها التي يعرفونها هي الملبية، فأكون هناك.
لقد تحمل الزملاء في قيادة اتحاد أدباء البصرة ـ بنبلهم وهمتهم وإيثارهم المعهود ـ أعباء هذا الملتقى تحضيراً وإعداداً وضيافة كريمة، على الرغم من محدودية الدعم الذي تلقوه من بعض جهات كريمة، في حين أغلقت آذانها وعيونها جهات حكوميَّة كان من الواجب عليها أنْ تقف معهم داعمة، كوزارة الثقافة ومحافظة البصرة، وهما الأولى برعاية مثل هكذا فعالية ثقافية سيكون لها صداها العراقي والعربي.
لقد كان هذا الملتقى فرصة مؤاتية لجمع شمل عددٍ طيّبٍ من الشعراء والنقاد، وفضاء تجريب قدمت فيه قراءات لها ما أبدعت وعليها ما ادعت، ومسعى حيوياً للتعايش مع أشكال شعرية مثيرة للجدل حدّ الخلاف، ومعاينات نقدية تتقصاها وتجادلها بموضوعية لا تخلو من قسوة أبوية مطلوبة.
وبهذا الملتقى، وما سيأتي بعده ـ في البصرة أو سواها من مدن الإبداع العربي ـ تؤكد الشعرية العربية حفاوتها بكل جديد آت، شرط أن يستقيم عوده في حاضنتها اللغوية وتشكلات ذائقتها العربية التي جعلت منا أمة كلمة شاعرة تغتني بالوافد الجمالي وتعيد إنتاجه في فضائها السمح الرحيب. ولعله سيكون من غير المنطقي ألا تنضوي بين مناحي إنجازها الشعري عشرات الأنواع التعبيرية والشكلية المعطاء سواء تلك التي استتب لها وجودها الراسخ فيها أو التي ما تزال ترقبه لاحقاً . 
وفي كل ذلك كانت للبصرة وأدبائها اليد البيضاء المعطرة بدفئها وطيبتها وغنائها الذي يشبه غناء النوارس فوق موج بحر تناسى ضجته واستكان مصغياً.