علي وجيه
حتى اللحظة، لم تتشكّل لدينا “ظاهرة” لكتابة الهايكو بالعربيّة، كي نؤسّس عنها مؤتمراً لبحث ما تمخّض عن هذه الظاهرة، ولأبتعد أكثر في الحكم لأقول: حتى اللحظة لم يُكتب الهايكو العربي، وربّما أتمادى لأقول: ليست هناك إمكانيّة لكتابة “هايكو عربي”، لأنّه ياباني!
وهذه ليست أفضليّة يابانية، لكنّ الأمر يشبه كتابةَ قصيدة طلليّة باللغة الإنكَليزية، أو معلّقة بالفرنسيّة، فالشعرُ ليس شكلَ كتابة فحسب، وإنما نُظُم تفكير، وتشكّلُ وجودٍ، وتعبيرٌ عن ذاتٍ جمعيّة، تؤثّرُ فيها الجغرافية والمناخ، والثقافة المتراكمة، وليس انتهاءً بالنبر الدينيّ، وربما يؤثر حتى الاقتصاد على طريقة نُظم القصيدة.
لم أستطع فهم إيقاع الهايكو، شخصياً، حتى زرتُ اليابان قبل سنوات، فالهايكو قصيدةُ طبيعة، تكونُ عناصرها هي البطلة فيها، وليستْ ذات الشاعر، كما في القصيدة العربيّة، وهي موجَزةٌ حدّ البتر، للإيقاع السريع في دول شرق آسيا، فضلاً عن كون أغلبها يُكمِلُهُ تأويلُ القارئ نفسه، لا كما يُضطرّ الشاعر العربيّ أن يكتب كلّ شيء بنفسه، مع الشرح، والتعداد، والتبويب.
وكلّما عُدنا لقطعةٍ إضافيّة من معمار الناقد “محمّد عضيمة” عن الهايكو الياباني، تتجلّى لديّ شخصياً وجهة النظر هذه، فما كلّ ثلاثة أسطر قصيرة هايكو، وما كلّ عربيّ بكاتب هايكو. الطبيعة تحضرُ في الشعر العربي كأداة وصف، يتفنّنُ فيها الشاعرُ بمقدرته الوصفية، لا يحاكيها، ولا يجعلُها بطلة، فالوردةُ تحضرُ لأنه يريد تشبيهها بشفاه حبيبتها، والذئبُ يحضرُ لأنه يريد أن يصف نفسه الغريبة المتوحشة به، والأفعى تحضرُ بوصفِها لادغة، وكلّها عناصرُ تحوم حول ذات الشاعر، لا سواه. لم يكتب عربيّ الهايكو. نعم، أؤمنُ بهذا الإطلاق، لأنه ليس يابانيّاً، يُمكنُ أن يقلّد بعض النماذج، لكن ليس من المنطقيّ أن التقليد يُمكن أن يُعد بظاهرة أصيلة، فما كُتب لطبيعة شرق آسيا، من غير المنطقي استعادته في بيئةٍ أخرى، كما أن الترقيص والترف اللغويّ والمشهديّ حضر في الموشّحات الأندلسيّة، والطلل والرملُ والاشتياق والاغتراب في شبه الجزيرة العربيّة، مثالاً لا حصراً.
كُتبَ “النصّ الوجيز”، كما أشارَ عنوان المؤتمر، عربياً بعدّة أساليب، منها “الشذرة” و”الشطحة الصوفيّة” و”المَثَل” وغيرها، لكنه لن يُكتب بوصفه “هايكو”، وبالعموم فإنّ النصّ الريفيّ “الطبيعيّ” حتى اللحظة لم يشكّل ظاهرة، رغم حريّة واتساع قصيدة النثر، مثالاً لا حصراً، وما شكّلت الطبيعة ثيمةً ثابتة، جزءاً من الشاعر، في تجربة موسعة، إلّا لدى سعدي يوسف.
ما كلّ شيء، يا أساتذتنا النقّاد، يصلحُ لأن يؤسَّس له إطار نقديّ، دعوا “الهايكو” لأهله، ولديكم فنونٌ كثيرةٌ، يمكن الإشارة لها، ونقدها وتفكيكها، أفضل من إيجاد زرّ وحيد، “يُفصّل” عليه معطفٌ كامل!.