حسين الصدر
- 1 -
الاضطهاد السياسي كان وراءَ تَرْكِ الشعراء العراقيين الكبار لوطنهم الحبيب فراراً بأنفسهم وبِشِعْرِهم أن يدنس بمدح الطواغيت تحت وطأة القهر والإكراه.
- 2 -
وأول هؤلاء الشعراء العراقيين الكبار هو المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي الذي عاش في مصر وكان عميق الصلة بالإمام الشيخ محمد عبده ورجال الإصلاح، ولقد لقي من شظف العيش ألوان العناء لاسيما بعد وفاة الشيخ محمد عبده، الذي كان قد خصص له راتبا شهريا يغطي نفقاته.
وحين توفي غريبا عام 1935 قال المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي في رثائه
ومن عَجَبٍ بَكَتْكَ وأنتَ مَيْتٌ
بلادٌ ضَيّعَتْكَ وأنتَ حيُّ
ومن المفارقات أنْ يقام له نصب تذكاري مهم، وتسمّى الساحة التي أقيم فيها باسمه بعد سنوات عديدة من وفاته، بينما بقي مُهْمَلاً مِنْ قِبل الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي، حتى إذا ما انطفأت شمعةُ حياتهِ، بدأت مراسم الحفاوة بذكراه ...!!
وهذه –للأسف الشديد – هي إحدى الظواهر المؤلمة، إذاعتدنا أنْ نفرّط بالأفذاذ والنوابغ ما داموا ما بَيْننا، حتى إذا ما رحلوا عنّا الى العالم الآخر نشطنا في مضمار التأبين والتكريم، وكأننا انتظرنا ان يكونوا تحت الثرى لا يرون ولا يسمعون شيئا مما يقال لنظهر مشاعرنا نَحْوَهمُ!
وهذا ما أشار اليه الجواهري بقوله:
أَهزُّ بِكَ الجيلَ الذي لا تَهزُهُ
نوابِغُهُ حتى تزورَ المقابر
وقد كتب الاستاذ الدكتور ابراهيم العاتي بحثاً قيما سمّاه (أسرار العلاقة ما بين أحمد شوقي وعبد المحسن الكاظمي)، سلّط فيه الأضواء على الظروف الصعبة التي عاشها الكاظمي بعد وفاة الامام الشيخ محمد عبده،وكشف فيه عن خفايا وأسرار رهيبة، الأمر الذي جعل البحث المذكور مصدراً مهماً للغاية في مضمار الوقوف على دقائق المعاناة التي عاشها الشاعر الكاظمي، والبحث منشور على موقع نبأ الاردن الالكتروني وعلى صفحته الخاصة في “ face book “
- 3 -
وثانيهم الشاعر العملاق الذي عَزَّ نظيرهُ في تاريخ الشعر العربي كله محمد مهدي الجواهري، فقد ماتَ غريباً ودُفنَ في الشام.
ومما قلناه في رثائه يوم مات:
ترّفَّعَ عَنْ مصانعةِ الطُغاةِ
فَذِيدَ عَنِ الفراتِ (أبو فراتِ)
- 4 -
وثالثهم المرحوم العلامة الدكتور السيد مصطفى جمال الدين الذي مات غريبا ودُفن في الشام أيضا:
لكنَّ السيد مصطفى جمال الدين – هو من القلائل الذين رأوا بعينهم مهرجانا أدبيا كبيراً شاركت فيه ثلة من الأعلام في تكريمه والاشادة بعطائه كان ذلك في لندن وبمبادرة من المرحوم الدكتور السيد محمد بحر العلوم، وكنتُ ممن شارك في ذلك المهرجان الكبير بقصيدة مطلعها:
نظما فيرُوينا النميرُ (المصطفى)
والنبعُ أعذبُ ما يكون إذا صفا
وجاء فيها:
ديواننا (الديوانُ) في آفاقِه
تاريخُنا الوضّاءُ أشرقَ أَحْرُفا
وعَظْمتَ في التاريخ شاعرَ أُمةٍ
غطّى سنُاه الداجيات وما انطفئ
(الديوان: هو اسم ديوان السيد مصطفى جمال الدين)
- 5 -
وماتت في الغربة أيضا الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة،
كما مات في الغربة عبد الوهاب البياتي، ودُفِنا غريبَيْن بَعِيدْين عن وطنهما.
- 6 -
ولست بقادر على إحصاء كل الشعراء المرموقين الذين ماتوا في الغربة، وانتهز الفرصة لأجدّد الدعوة الى تكريم القامات العراقية الشامخة في ميادين العلم والأدب والاحتفاء بهم، واحتضانهم في ربوع وطنهم وفاءً لما حملوه من مواهب ومناقب بدلاً من بقائهم في ديار الغربة ينتظرون ساعة
الرحيل.