ما سمعتُ، يومًا، عن سلطة عربية تخلّت عن عرشها بالهيّن، وربما القوة وحدها مَنْ تستبدل العرش!، ولا يحتكرنّك الظن عند السياسة حسب، إذ كل السلطات بمختلف أشكالها تتشابه بنزعة البقاء والهيمنة والنفوذ، وحين اقتصرتُ الأمر على العربية وفضائها المختلف فلأنني أجد في تجارب الحداثة الغربية ومجتمعاتها المدنية والديمقراطية انتقالًا للسلطة كما ينتقل الطالب من مدرسة إلى أخرى!.
وحين (أوهمنا) المفكرون والباحثون والنقاد أن الحداثة قد أعلنت ظهورها في المجتمع العربي، ومن مظاهرها (الشعر الحديث) صدقنا أنها ولدت بصفات حداثية وستحقق قطيعة عن السلطات الموروثة وستقف على أسسها وتحمل مبادئها وتحترم هويتها وستضع حدًا فاصلًا يميزها عن مرحلة سبقتها.. هذا ما وعد به (الوهم).. وإذا بحداثتنا مشوهة ومعاقة وتسير بعكاز التقليد وتحت ظل سلطة الدين والقبيلة.. ولكن علينا أن نفهم أن الحداثة تشبه (الدين) في مسألة (الإيمان) فإن لم تكن مؤمنا بها فستخذلها وتخذلك.
لم تكن محنة السياب هي محنته وحده، بل كانت محنة الحداثة كلها حين أرادت أن تؤطر ولادتها بولادة (أبي غيلان) ولكن كيف للعمود الشعري وصحابته والتابعين إليه والحاكمين بفضل غنائه وتجميله و(هوساته) كيف لهم أن يتخلوا عن عرشهم وعندهم من الأدوات (النقدية) ما تضمن لهم البقاء والاستمرار بل الهيمنة!.. فحين شرع بعض النقاد إلى تأطير الشعر العربي الحديث بمرحلة الشعر الحر لم يرضَ (النقد العمودي) على استبعاده عن المشاركة، وحين تجرأ بعض النقاد واعتبروا الجواهري معاصراً لا حديثا انتفض المنظرون وأعدّوه (أبا الحداثة)، والغريب أنهم جعلوا البارودي الغارق في التقليد للقصيدة العمودية البدوية عرَّاب القصيدة
الحديثة!!..
الحداثة ليست تنوعا أسلوبيًا ومزاجًا فكريا أو جماليا ولا ترفًا اجتماعياً.. إنها إيمان ومبدأ وثورة على (الأب) وليست تقليدًا له أو تعيش تحت حمايته وإجازته.. وعليه فإن الحداثة الشعرية العربية ستبقى في محنتها وأولها شرعية ولادتها، وإلا كيف يمكنني أن أتخيّل شاعرا حديثا يكتب بكل الأشكال (المتناقضة)، ويعد تعدد الأشكال تعددًا في الأساليب في حين هو تعدد في المبدأ والثقافة والمرجع والشاعر الحداثي إن لم يكن مبدئيًا فما هو إلّا شاعر محنة
حداثية.