مع ظهور (كوفيد- 19)، الفيروس التاجي الجديد «اكتشف في كانون الأول (ديسمبر) 2019، في مدينة ووهان وسط الصين، ثم تفشى في شكله العولمي حسب وصف منظمة الصحة العالمية يوم 11 آذار (مارس) 2020». اكتشفنا كم نحن البشر ككائنات طبيعية في هذا الكون اللامتناهي عراة؟ عرينا البشري وضعفنا وهشاشتنا، أمام فيروس صغير طفيلي بدائي التكوين لا يرى بالعين المجردة، وكم هو ضعيف هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه، أصبحت البشرية كلها تحت الحجر المنزلي والطبي واغلقت الاسواق والمراقص والمولات الكبرى والملاعب وتوقفت عجلة الصناعة العالمية، واكتشفنا (نحن في فراغ، ونختزل إلى لا شيء. نحن لا نتكلم، ويجب ألا نتحرك، بل أكثر من ذلك نحن لا نفهم ما يحدث).
في نهاية رواية (الطاعون) 1947 لألبير كامو يقول (إن كل ما يستطيع الإنسان أن يربحه في معركة الطاعون والحياة هو المَعرفة والتذكر). نعم المعرفة والتذكر هما السمات التي سوف يربحها هذا الانسان بعد النهاية الاكيدة لجائحة كورونا وسوف تسرع هذه الجائحة حركة التاريخ وتعيد تشكلها وتقود إلى بروز وعي ثقافي عالمي جديد.
الهلع العالمي
الهلع والخوف اللذان صاحبا الوباء وانتشرا داخل وعي الافراد والجماعات والثقافات ترجم كحاجة طبيعية لحالات الفزع، وهذا يناقض القدرات البشرية الفائقة مع بدايات ثورة صناعية رابعة يمر بها العالم (الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء)، وهنا يُبين السوسيولوجي ألان تورين: ما يبدو واضحا الآن ليس لدينا إلى حدود الساعة علاج ولا لقاح. ليس لدينا أي سلاح، أيادينا فارغة، نحن محبوسون ومنعزلون.. مهجورون. يجب علينا ألا نتصل ببعضنا البعض، وفوق هذا وذاك يجب أن نلزم البيت). السؤال كيف ستعود المجتمعات البشرية إلى البيئة الواقعية بعد كورونا؟ هل ستخرج المُجتمعات برؤية مختلفة للوجود والحياة؟، هل ستعيد دول العالم تصورا جديدا لمشاريع ثقافية وسياسية واقتصادية انسجاماً مع تحديات الوباء؟، ماذا تعني سيولة الوباء في العصر العولمي؟ ماذا يعني انسان ما بعد
كورونا؟.
السياسية الحيوية ورمزية الإنسان
تتجسد السياسة الحيوية في نظرية ميشيل فوكو في سلطة الإحياء بدل الحق في الإماتة، وذلك بعد أن جعلت الدولة لنفسها مكاناً في التدخل (في الحياة وطريقة الحياة ومستوى الحياة ورفع مستواها، والتحكم في الأجساد)، ومع انتشار الوباء بسيولته العولمية كشفت السلطات القائمة في الغرب والعالم عن عجز واضح في تقديرالمأساة/ الكارثة التي ضربت المجتمعات، واصبحت كل منظوماتها السياسية والايديولوجية والصحية والثقافية بحاجة الى مراجعة جذرية، واستبدالها، بنماذج جديدة قائمة على نوع آخر من التسلط، وعلى منظومات قيمية جديدة. ويقول مارسيل غوشيه لا يمكن لأحد أن يتنبأ بحجم الحدث، لكن الصدمة الفكرية والأيديولوجية كبيرة. لقد ماتت العولمة الليبرالية القائمة على مبدأ (التجارة اللينة) التي تعد بـ حل لجميع المشكلات، قد عفا عليه الزمن، الحاجة إلى التفكير الستراتيجي تفرض نفسها على نطاق المجتمعات.
نحن بحاجة إلى أنموذج سياسي جديد وأنموذج ثقافي- فلسفي جديد. ولم يغفل جاك أتالي أهمية هذه التحولات التي بيَّن التاريخ أن انتشار الأوبئة الفتاكة كان دائماً تمهيداً لاندثار شرعيات قديمة وقيام شرعيات جديدة مقامها على أساس القدرة على حماية البشر من الموت، إذ يقوم الباقون على قيد الحياة بالثأر للموتى، حين عجزت القوى المهيمنة عن حمايتهم من الموت عبثا ولم تفلح في أن تمنح معنى لمغادرتهم الحياة. حيث يبيّن الحدث اليومي للموت الفردي بجائحة كورونا تفاهة الوجود الرمزي للإنسان ويصبح رقما من ضمن القوائم التي تصدرها السلطات الصحية في الدول، فضلا عن ذلك تفتقد جثة الميت الى عمليات (التبجيل) التي توصي بها الثقافات والاعراف الدينية (الغسل والكفن والصلاة) التي تعد من شعائرية العبور في المجتمعات البشرية باختلاف الثقافات، وتصبح جثة مدنسة تَنقل العدوى ويجب التخلّص منها في مَقابِر بعيدة عن المدن المأهولة او المدن المقدسة أو مَحارِق جماعية.
حركة التاريخ أو الخلاص
الفيلسوف الإيطالي جورجيو اغامبن الذي تحدث عن (العدو في الداخل) ينفذ من راحة اليد وريق الفم وليس من الخارج. لقد بات الهدف الأقصى إنقاذ حياة الإنسان في وضعه البيولوجي الضيق (الحياة العارية حسب عبارة اغامبن)، مع التضحية بكل مكاسب المدنية الحديثة من حقوق سياسية واقتصادية، بما يعني أن الحالة الاستثنائية أصبحت الأفق الطبيعي للسياسات، بعدأنأثبتت زيف المنظومات القائمة على المعتقدات والسيطرة، البشرية، لفشلها في الحيلولة دون موت أعداد لا تحصى من البشر.
ولادات جديدة للنظام الرمزي
ما الذي سيولد من هذه الجائحة؟، فعلى مدى التاريخ البشري، أدّى كل وباء او جائحة كبرى كما يسرد التاريخ إلى تغييرات جوهرية داخل أنظمة الأمم السياسية، وداخل انظمة الثقافات التي تبنى عليها تلك الأمم. هكذا تنبّأ جاك أتالي الفيلسوف الفرنسي(بحدوث تغييرات عميقة في العالم، تغييرات ستطال بنى العولمة التقليدية وتعيد تشكيل ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى. وتحدث عن ولادة (سلطة شرعية جديدة) غير مؤسسة على الإيمان أو القوة أو العقل، وإنما على (التضامن) البشري في وقت الأزمة). تغير الأوبئة طبيعة التاريخ بنتائج مختلطة واتجاهات لا يمكن توقعها وظهور نظم رمزية، نمذجة السلوك الاجتماعي اليومي وتشكيل أنماط الحياة الاقتصادية، وهنا تعد عبارات فالتر بنيامين أكثر حضوراً (الخلاص يعتمد على الصدع الصغير في الكارثة).