يقول ادوارد سعيد "المدن سرديات كبرى".. وحكايات، وهذه واحدة من تلك الحكايات لمدينة أدركها الليل، ولم يبتلعها فظلت جسدا يلفه الأسرار ممزوجا بحب أهلها الذين رضعوا مضغة عشقها من دون سواه لأنها مدينة جنوبية، والجنوب كما يقول الروائي خضير فليح الزيدي "نحبه لرطوبة الروح الطرية في أوصاله، ونكره فيه غباره الذي غطى حكايات الأولين".. حقا لأن أطنان الرمل التي أزاحها "ليونارد وولي" مع حفنة من القرويين عن جسدها في إحدى رحلاته التنقيبية في عشرينيات القرن الماضي للبحث عن أسرار أقوامها الأولين (السومريون الأصلاء)، أعادها الآخرون في محاولة لتغييب صوتها ليكتب لها
أن تعيش سنوات من الحرمان لكنها عاشتها بكبرياء ومهابة، فطهرت جراحها بمياه الفرات، وأطفأت ظمأها بدهلة الغراف الذي لم يبخل عليها حتى في مواسم "الصيهود"، ولم تغير سموم البوارح من سحنتها الجنوبية فبقيت علامة فارقة في وجوه المهاجرين من أبنائها في البلاد القصية، وظلت تتنفس عبق اهوارها التي احتضنت أولادها كأم حنون مثل ما يحتضن برديها منذ آلاف السنين، وبقيت في سجل التاريخ علامة بارزة، ورقما صعبا لأنها مدينة سابقت الزمن ولاذ منها بالفرار.. عاصرها الكثير من الجلادين، وكان عمرها أطول لان جذور تأسيسها التي وضعها" أور نمو" كانت راسخة.
صرخت منذ ولادتها لأنها كانت تدرك العذاب الذي سيحل بها يوم قطع حبلها السري ناصر باشا الأشقر، حينها لم تترك حقبة في التاريخ القديم والحديث إلا وكانت لها بصمة واضحة وطازجة.. عشقتها كل آلهة سومر فتوسدت رمال أور بانتظار ريل "المكير" الذي غيبته المسافات.. هذه هي قصة لمدينة اسمها الناصرية التي وصفها الشاعر مسلم عباس
الطعان:
الناصرية.. ابنة اوروك المسكونة بالاوجاع
وحلم الفقراء المنكوبين وشراع
من لا يملك.. في وجه الموج الغاضب
صبرا وأضاع بوصلة الرحلة في الاصقاع
الناصرية.. سدرة شعر غنت فوق غصون قوافيها
اسراب طيور الابداع الناصرية.. ابنة ذلك الطوفان
الناصرية.. رغيف الوجدان بيدر عشق طيور الله
وبستان الأحزان.. الناصرية.. كحل الثورة
ضد الظلم، وضد الضيم ما أجمل
أجفانا تتكحل من كحل الثورة.