تكتنف عملية تلقي المسرح (البريشتي) وخطابه في عالمنا العربي عوائق وموانع مختلفة تتمثل في قلة العروض المسرحية وندرتها التي تقدم نصوصه، ووجهات النظر التي تقصيه بوصفه مسرحا ذا قراءة زمنية قاصرة غير مستديمة لا تنهض وتواكب تسارع التحولات الكبرى في العالم ويستهدف طبقة اجتماعية معينة تفتتت وذوت وما عاد لها من حضور، فضلا عن الضعف والابتذال اللذين يطبعان عملية تعريب واقتباس وتكييف بعض مسرحياته من قبل المسرحيين العرب.
وهي مسرحيات لا تنتمي في الغالب الى مرحلة نضج (بريشت) الفكري والفني، وتصور المقدمون لها أنهم يحاولون استنبات المسرح الملحمي البريشتي في تربة المسرح العربي بما يتلاءم وخصوصية المجتمع العربي وذوق الجمهور وميوله وتقاليده المسرحية، ويعود نوع آخر من العوائق الى طبيعة المصادر التي اعتمدها الباحثون العرب في اكتشاف مسرح (بريشت) تكرس كثيرا من اللبس بشأن المسرحي الألماني عن الانسان وعن فكره وفنه وهي غالبا لا يمكن ان تصلح كمصادر للتعرف الحقيقي والموضوعي على هذا المسرح ورائده ولا تساعد حتى على تكوين فكرة واضحة عنهما، ومن الدراسات الاولى التي مهدت للقارئ في بلادنا الانفتاح على (بريشت) بواسطة الترجمة والتلخيص والتعليق كتاب (رونالد غراي) عن بريشت ترجمة (نسيم مجلي) عام 1972 والذي قدم له (غنيمي هلال) وكتاب (مارتن اسلين) الذي قدمه وترجمه (ماهر شفيق فريد) عام 1971.
ونتج عن هذه الكتابات المناوئة لبريشت نمطان من المواقف وردود الافعال: النمط الاول هو نمط الرفض لهذا المسرح ولرؤية صاحبه الفكرية والجمالية وهو يقوم على منطلقات مناقضة بل وعدائية لمنطلقات (بريشت) وغالبا ما يتستر اصحابه لتبرير موقفهم الايديولوجي والسياسي (الرأسمالي) وراء اغطية شكلية وتقنية ويحتجون في ذلك بالضعف الفني الذي يعتري المسرح الملحمي كما
يزعمون.
أما النمط الثاني فهو الرفض الناتج عن سوء فهم لحقيقة المسرح الملحمي وجوهره، وعن المغالطات الكثيرة التي عملت على ترويجها نوعية الدراسات والكتابات المتوافرة عن بريشت، إذ نجد اصحابها انفسهم يدافعون عن فكرة التزام المسرح وضرورة مساهمته في عملية التغيير، أنتج (غراي) تصورا زائفا عن بريشت بوصف حياته مسلكية ماكرة ثابتة لازمته طيلة حياته، ويجعل المكر سمة مميزة لشخصه وسلوكه العام ولمواقف وافعال شخصيات مسرحياته وكذلك يظهر (جاليلو جاليلي) والأم شجاعة والاخيرة تاجرة تستغل الحرب للربح فتفقد أبناءها، أما (مارتن اسلين) فيصف مسرحياته بأنها (وجودية) او (عدمية) تتردد فيها صيحات (نيتشه) عن موت الإله، وينضاف الى نعت العدمية صفة ازدواج شخصية بريشت التي تنطوي حسب (اسلين) على دوافع ونوازع متعارضة فقد كان بريشت فوضويا وعدميا وبوهيميا من جهة ومؤمنا ايمانا وطيدا بالفضائل الجماعية للنظام من جهة اخرى، وعلى الرغم من ان كثيرا من مظاهر اللبس والخلط التي احاطت معرفة المسرحيين العرب بـ (بريشت) ومسرحه تعود اغلبها الى بداية الستينيات وتصدر عن جهل بأسس هذا المسرح وقواعده وحضور لخيانات فادحة في الترجمة لنصوصه ودراساته لا تزال قائمة ومنتشرة الى يومنا هذا وهكذا نجد السوري (علي عقلة عرسان) يعتمد على (اسلين) و(روبرت بروستاين) و (بامبر جاكسوين) و(اريك بنتلي) ويتبنى طروحاتهم نفسها التي تنطلق فكريا من منطلقات مغايرة لمنطلقات بريشت وتتوجه نحو قارئ يمتلك تراثا وتراكما مسرحيين يرجعان الى مئات السنين، قارئ يتوافر على خبرة مسرحية تمكنه من نقد تلك الكتابات مما لا يتوافر ذلك بالقارئ العربي لذلك قد لا تصلح هذه الكتابات لاكتشاف مسرح بريشت والتعرف الحقيقي عليه او ان يتم اختزال دراسة مسرحه في بواكيره الاولى مما يعطل افق القراءة الشاملة التي تتكئ لدى بريشت على تحولات بنيوية عميقة في مسرحه وفكره.. تمت إعادة اكتشاف بريشت من لدن الباحثين العرب ولم يقتصروا على الكتابات الاولى المترجمة بل ظهرت نهاية الستينيات ترجمة مسرحيات بريشت الى العربية التي يعود فضل الريادة فيها لكل من المصريين (عبد الرحمن بدوي) و(عبد الغفار مكاوي) فضلا عن المقالات المبكرة والرصينة لكل من (سعد اردش) و(عبد المنعم الحفني) والعراقي (يوسف عبد المسيح ثروت).
وظهرت في السبعينيات بوادر حركة تصحيحية واعطاء فكرة موضوعية وحقيقية عن بريشت ومسرحه، وذلك بالعودة الى كتاباته الابداعية والنظرية نفسها والى مصادر المسرح الملحمي الاصلية بكتب (الارغانون الصغير) و(نظرية المسرح الملحمي) و(الديالكتيك على المسرح) و(مسرح التغيير) بترجمات العراقيين جميل نصيف وقيس الزبيدي، وكتب اخرى تتعرض لحياة بريشت وفكره وفنه ككتاب (والتر بنجامين) وكتاب (فردريك اوين) الشامل بترجمات (اميرة الزين) و(ابراهيم العريس)، وكتاب ألّفه السوري (عدنان رشيد) حاول فيه تقديم بعض التعاريف والمفاهيم التي تنهض عليها نظرية المسرح الملحمي، واخر كتاب صدر عن المشروع القومي للترجمة في مصر عنوانه (بريشت ما بعد الحداثة) تأليف (اليزابيث رايت) وترجمة (محسن مصيلحي) عام 2005 ويحلل الكتاب بعض المفاهيم والفواعل المسرحية والدرامية في المسرح الملحمي وربطها بعناصر وسمات ما بعد الحداثة بوصف المسرح البريشتي قريبا من التيارات والصرعات الفنية الحديثة التي اخذت منه العديد من التقنيات والابتكارات
الفنية.