طالب عبد العزيز
لم تأت أهمية قصيدة «الجيفة» لبودلير من استعماله لمفردات القبح، أو من الصورة البشعة التي صورتها، إنما من الصدمة الانسانية التي ولدها مشهد الجثة، في مِكبِّ النفايات، والتأمل الشعري لها يكشف عن مفردات الحياة، التي لم يجد غنى له عنها، حتى وهو يصوّر المشهد المخيف ذاك، فنراه يقول:»كانت الشمسُ تسلّط أشعتها على هذه الجيفة، كأنما تريد أن تصليها وتسويها فتردُّ إلى الطبيعة ما وسقته، مبعثراً في ذراتٍ لا تحصى. وكانت السماء تنظر إلى هذه الجثة الرائعة كأنها زهرةٌ تتفتح..» وبمعنى ما، فأنه لا يمكننا كتابة قصيدة بمفردات نستلها من القبيح والشائن في اللغة، أيّ لغة، لكننا قادرون على ذلك، باستخدام مفردات الجمال والاناقة. هذه خصيصة أجدها في خطاب الشعر، وقد تكون ممكنة في صناعة خطاب ثانٍ كالقصة مثلاً، لهذا فالأهمية قائمة في انتقاء الشاعر لمفردات قصيدته، وتزيينها بما في اللغة من بديع وحسن، ذلك لأن الشعر بواقعه الاول، وكما أراه، هو كل ما يُعيننا على الحياة، وكل ما يُمكّنُنا ويعززُّ من وجودنا في العالم المضطرب هذا. وحريٌّ بالشاعر النأي بشعره عن تناول البشاعة والقبح، وتقديمها في قصائده، وأن يتركها الى فنون كتابية وصورية أخرى، ولعل الصورة الفوتوغرافية والسينما تكون قمينة بذلك.
يكفي الانسان المحاصر بشتّى أنواع الرعب ما يسمعه ويشاهده من صور الوقائع اليومية المرعبة، فهو بحاجة حقيقية الى انتشاله مما هو فيه، ويعاني منه. فربما كانت القصيدة الجميلة منقذاً له من لحظة ما، وهنا، نودُّ ألا يُفهم من حديثنا على أنه دعوة لكتابة الشعر الخالص، المُفْرغ من معاني اليأس والاحباط، أو تصوير الحياة على أنها بحيرة محفوفة بالطمأنينة، أبداً، فشعرٌ مثل هذا سيكون بائساً، لا جدوى ولا معنى له ترى، من أين يأتي الشاعر بمفردات الجمال، إذا كان القبحُ محيطَه، وكانت قوى الظلام تطوّقه؟ وكان كل ما في الوجود ضدَّه، هذا سؤال تصعب الاجابة عليه، إذا ما عرفنا بأن الشعر من الشعور، وتدوّين ما يشعر به الانسان، وما هو كائن حوله، وهنا سأكون محرجاً في الاجابة حقاً، فانا شخصياً، ومنذ سنوات أعاني من يبس وتصحّر في لغتي، بعد اختفاء عناصر البهجة والحياة من حولي، فأنا اسكن مدينة كلُّ ما فيها يقف بالضد من الحياة والعيش الآمن، فعدد البنادق فيها يفوق عديد سكانها، ولا مقارنة منصفة بين مقرات الاحزاب المسلحة فيها وحدائقها العامة. مدينة لا تسمع أغنية في مقاهيها، ولا ترى لوحة جميلة في مطاعمها، وهي في فقد مستمر لمفردات الجمال فيها ستكون طاردة للشعر والشاعر معاً.