رعـد فاضل
* إيديولوجيّاً يمكن تقسيم الكتابة الأدبيّة على قسمين: اِخباريّ تعليميّ وعظيّ غايتُه توجيهيّة، وعادة ما يكون هذا القسم يوميّاً في الجرائد وأساليب التواصل الاجتماعيّ الحديثة. أمّا الثاني فمنصرفٌ إلى ما وراء الإخباري اليوميّ، أي مركِّز على ((ما ليس يومياً في الحياة اليوميّة)) ذاك الذي يتجاوز الإخبار إلى تفكيك الخبر واعادة صياغته وفقاً لرؤية هذا الكاتب الايديولوجيّ أو ذاك، بحثاً عن الغريب في العاديّ، والمثير في العموميّ، والأسطوريّ في الوعظي؛ شريطة الإخلاص للفكرة الرئيسة المراد ايصالها ايديولوجيّاً ولكن بأسلوب أدبيّ على شيء من الإدهاش، وغالباً ما يكون أسلوب هذا القسم انطباعيّاً ولكن من زوايا نظر شخصيّة وإن نوعاً ما، انطباعيّاً أشبه ما يكون بكتابة فلسفيّة أدبيّة في اليوميّات لا تغلب عليها الصّياغة الصّحافيّة كما في القسم الأول، أو كما تسمّى ((الفلسفة العموميّة)) تلك المتعلّقة بالحياة اليوميّة، شرط أن تظلّ متمتّعة بأدبيّتها البعيدة عن أيّما قراءة ايديولوجيّة سياسيّة أخلاقيّة مباشرة كما في القسم الأول أيضاً.
* لا تتأتّى اِدامة الجهل الثقافيّ بكلّ أنواعه إلّا بالتّعبئة المتواصلة لماكنة السّطحيّة العملاقة بوقود التقليد والتّكرار والاستعادة والاستلهام، ولا فكاك من ذلك إلّا بتحويل ((ذلكَ ما كانَ)) إلى ((ذلك ما أردتُ)) أي إلى ما هو كائنٌ الآنَ، وما سيكون في ما بعد عليه. هنا بالضّبط يكون حاضر الثقافة مخلَّصاً من كلّ ما هو متهالِكٌ من ماضيها ليكون مستقبلها هو الآخر مخلَّصاً من ما سيتهالك من حاضرها (حاليِّها)، هذا التخلُّص هو كوجيتو ما يُعرف بالتّدميريّة أي الإبداعيّة لأنّ ((كلّ من يريد أن يكون مبدعاً عليه أوّلاً أن يكون مدمِّراً)) كما يشترط صاحبُ فلسفة المطرقة. وضمنيّاً: أن تكون مُدمَّراً يعني أنك كنتَ مقـلِّـداً، ولولا ذلك ما كنّا سنصنع بسلطات كلّ تلك المتهالِكات الآيلات للسقوط من الهياكل والأفكار والأشكال، وتلك التي ستؤول إلى ذلك أيضاً لولا مطرقة الهدم الإبداعيّة لإعادة البناء، المطرقة التي تتنقّل عبر الزمن وإنْ أخذت أشكالاً ومفاهيم مختلفة. وهذا من أهمّ شروط: كيف تكون الكتابة مبدعة.
الدّعوة إلى ((صيانة المعرفة)) لا يمكن أن تعني إلّا ترميمها، في الوقت الذي يتطلّب فيه كلّ شيء عجوز التّدميرَ لا التّرميم، لأنّ الثاني صحيحٌ يبقيه ماثلاً للعيان لكنّه في الوقت نفسه يكون قد أبقاه على عجزه. التّدمير هنا لا يعني الالغاء وإنّما التّجديد لأنّ المعرفة المؤثّرة المغيِّرة من شروطها الأوّلية أن تكون نشيطة فعّالة لا حيّة حسب، أن تكون تأسيسيّة متصيِّرة لا ثابتة متبلِّرة ففي تدميرها، بهذا المعنى، حياتُها الحقيقيّة لا تلك المزيّفة بالتّرميم، أي: ((مُتْ تتجدّدْ)). التّدميريّة هنا تعني تجريف العاطل والمتهالك لا ترميمه بالصّيانة، لأنّ الصّيانة لا يمكن أن تعني سوى نفي التأسيس والابتكار، وتثبيتِ الآيل للتهالك والسّقوط بالتّرميم. ببساطةٍ: أن يتهالك جهاز ما في منزلي، أمامي أحد أمرين: إمّا أن أخرجه من الخدمة، أي أُدمّره بنفيه هذا إن كنت مقتدراً على الإتيان بجديد، أو أن أظلّ أُخضعه للصّيانات إن كنت لست مقتدراً، ولا ننسى الجهود وتكاليفها التي ستبذل على الدوام في سبيل هذه الصّيانات. وضمنيّاً: أن تكون صائناً يعني أن تكون مقـلِّداً. أليست المعرفة كما الحياة تتطلّب دائماً مؤسِّسين مقتدرين من حمَلَة المطارِق؟
* أن يكون كاتبان مختلفين أو حتى متنافرينِ أدبيّاً وفكريّاً، عليهما أن يقولا لبعضهما البعض الآخر: أنت لستَ ندّاً لي لأنّك لا تقع في فلك اهتماماتي الأدبيّ والفكريّ، كونك بعيداً كلّ البعد عن تصوّراتي. هذا الكوجيتو على بساطته من شأنه أن يوسّع مدارات فلك الاختلاف النوعيّ ويعمّق مساراته الحيويّة تنوّعاً وتأثيراً.
* أن تلعب على وفق طُرق لعبٍ عدّة ومختلفة من كتاب إلى آخر أسلوباً وفضاء يعني أنّك ((مُفـتنّ المذاهب، لأنّ الافتنان في ضروب الكلام أعلى من الاستمرار على ضرب واحد)) كما فهم حازم القرطاجنيّ ذلك قبل ثمانية قرون.
* كتابي (اللعب بجواهر الأشياء) الذي لمّا ينشر بعدُ كتابةٌ شعريّة حياتيّة من النّوع الهادئ البارد، المحسوبِ في جُلّه على ما يمكن أن أسمّيه بالتّأمّل الانطباعيّ الذي تشتغل فيه العين قبل البصيرة، أو بمعنىً أكثر دقّةً كلاهما يشتغل مع الآخر في آنٍ معاً، حتّى ليكادُ يوهِم قارئه بأنّه كتاب شعريّ انطباعيٌّ؛ بخاصّةٍ تلك النّصوص المشغولة وفقاً (للبعد الرابع) على شكل لوحات ما بين زيتيّة ومائيّةٍ، وعلى هيأة صورٍ فوتوغرافيّة.
* ألا تتحوّل الكتابة الأدبيّة بكلّ أجناسها وأنواعها كما أيّ شيء حيّ آخر بالتقادم إلى حالة مسلكيّة، وإن كان كذلك فهذا يعني أنّ هنالك خدمةً ما يؤدّيها الكاتب على مرّ التّاريخ وإن تباينت أساليب هذه الخدمة وأزمانُها وأفكارها ورؤاها. ولكن ألم يفلت من هذه الخدمة المسلكيّة أحد؟ على وفق أرشيف هذه المسلكيّة هنالك نوعان من الكُتّاب: الأوّل يتمتّع بالصرامة والسّيمتريّة والترميميّة وينافح عنها حتّى النهاية، والثّاني يعمل على تقويضها من داخلها محاولاً اِعادة تصميمها وتجديدها، وهو في كلّ الأحوال مسلكيٌّ كما الأوّل ولكن نسبيّاً. من هنا على الكتابة أن تضادد دائماً القولة الإفريقيّة القديمة القائلة بأنّ ((الطريق وحده يعرف السرّ))، أو في الاقلّ فتح هذه القولة هكذا: وعلى سالك الطريق أن يكتشف هذا السّر. أليست الكتابة طريقاً مفخّخاً بالأسرار، طريقاً لا حدود له ولا نهاية؟ بهذا المعنى أفهم أنّ الكتابة سلكاً ولكنْ
غير صياني.