ليست الأنفاق هي فقط تلك التي تكون تحت الأرض، وإنما التي لا حدود لها وأشد ظلمة وتنتهي بصاحبها الى الجنون أو الى الجريمة أو الى الموت، إنها أنفاق النفس البشرية التي لا تجد لها مكاناً بين الناس، وهكذا يدخلنا الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو الى نفق بطله خوان بابلو كاستيل في رواية (النفق) وكل ما نعرفه عن خوان بابلو من خلال ما يحدثنا به هو بنفسه والذي يقوم بدور السارد حتى النهاية أنه رسام ويعيش في عزلة شبه تامة عن الناس، ويكشف لنا شرور نفسه كما لو أنه يحكي عن أمور بسيطة أو طبيعية، فهو منذ البداية يعرفنا بنفسه بقليل من الكلمات (سأكتفي بالقول إني خوان بابلو كاستيل، الرسام الذي قتل ماريا إيريباني) لكن قتل ماريا سيأتي في نهاية الرواية،
أما بعد هذا التعريف فسيعترف لنا بكل ما اقترفه بحق نفسه والآخرين، فهو شخصية مضطربة، لا يؤمن بوجود ذاكرة جمعية ولا يؤمن بأن (كل زمن مضى كان أفضل) ويفضل تذكّر الأمور السيئة فيعدل العبارة (كل ما مضى كان أسوأ) لأنه يتذكر كل المصائب والوجوه القاسية والأفعال السيئة)، لذا فهو يريد أن يبرهن لنا أن العالم فظيع ولا تحتاج هذه الحقيقة الى برهان، فكيف عاش هذا الرسام ولماذا اقترف جريمته فقتل المرأة الوحيدة التي أحبها؟ والوحيدة التي تأملت إحدى لوحاته ووقفت مطولاً أمامها؟
في أحد معارضه كانت ثمة لوحة تتصدرها امرأة عجوز تتأمل طفلاً، وفي أقصى الجهة اليسرى من الرواية هناك نافذة صغيرة تطل على بحر تقف على شاطئه امرأة في لحظة انتظار لأمر ما، لم ينتبه زوار المعرض الى تلك النافذة إلا ماريا، التي راقبها الرسام، وأراد أن يعرف منها لماذا شدتها تلك النافذة من دون الآخرين، لكن ماريا ضاعت عن عينيه وسط الجموع ولم يرها، وظل يبحث عنها لشهور لعله يلتقيها في مكان ما، حتى عثر عليها ذات مصادفة وهي تسير مسرعة فلحق بها.
خوان بابلو كاستيل، رجل يكره حضور التجمعات ولا يزور المعارض، ويتفادى الاحتكاك بالآخرين، ويبغض النقّاد، ويتعالى على الواقع، ويشمئز من الناس، والأكثر من ذلك أنه خجول إذا ما تعلق الأمر بعلاقة مع امرأة، فكيف سيتحدث الى هذه المرأة التي شغلته طيلة الشهور الماضية وأفرط في خيالاته باحتمالات لقائها؟ وهو الآن يتعقب مشيتها وليس باستطاعته التحدث معها، إنه يتبعها فقط حتى تصل الى بناية لشركة فيقف بالقرب منها أمام المصعد، سنعيش حيرة خوان بابلو وتردده، واضطراره لقول كلام عام لا يوصله الى الهدف، وستستمر هذه الحالة معه حتى بعد موعدهما الأول وما تلاه ليدخلنا من خلال تلك العلاقة الى نفقه الذي لا يخرج منه إلا بالقتل.
إنها شخصية مركبة وغامضة ومريضة ولا مكان لها إلا في مستشفى للأمراض العقلية، فالمجنون ليس فقط ذلك الذي يودع في المصحات النفسية بسبب خطره على المجتمع، بل الأخطر منه هو ذلك الذي يبدو هادئاً ورصيناً، ثم يقوم بجريمته ببرودة أعصاب، ذلك هو خوان بابلو ومن هم على شاكلته، لقد عمل في جميع لقاءاته بماريا على أن يجعل الحوار بينهما متدفقاً، لكنه في كل مرة يتحول الى حوار تجاذبات عميقة واستجوابات عن أدق التفاصيل.
سيتوقع القارئ أن اللقاء الأول سيكون رومانسياً، خصوصاً وقد أفاض المؤلف عن خيالات خوان بابلو بلقاء هذه المرأة التي شغلته وجعلت كراهيته للناس تتراجع، لكن الحوار بدأ انطلاقاً من سؤال عن اللوحة، ثم أخذ منحى فلسفياً من جانب خوان بابلو عن الحياة والموت، الحياة التي يراها كابوساً وتكراراً للمأساة البشرية، حينما يولد آخرون بعد أن يموت من عاش وذاق طعم المأساة.
إن خوان بابلو يحب ماريا، لا شك في ذلك، لكن هذا الحب مشوّه ومُعذِب للطرفين، وستبدو ماريا بالنسبة له امرأة متناقضة، وهو مرتاب من تصرفاتها، فبعد لقائهما الأول واعدته على اللقاء في اليوم التالي، لكنها سافرت الى المزرعة التي يديرها هنتر ابن عمها، تاركة له رسالة في بيتها، فحملته نفسه الى ذلك البيت ليتأكد من ذلك، وسيعرف أنها متزوجة من رجل أعمى، فهل أرادت ماريا أن تواجهه بهذه الحقيقة لتعذبه؟ كان يمكنها أن أن تخبره فقط، ومن هو هنتر؟ هل هو عشيقها؟ هذا ما استقر عليه ذهنه المضطرب الذي استقر على ماريا فقط، معتبراً أن روعة العالم أن تحب حتى الموت (إن لم يكن بوسعي أن أحبك فسأموت) ومع كل لقاء بينهما تتعمق ظلمة النفق الذي يسير فيه بابلو، ويتحول الى مستجوب عن كل صغيرة وكبيرة تقوم بها ماريا، وكل ما تقوله خاضع للأسئلة، وتنبثق من داخل نفسه شروره التي لا يستطيع ردها، رغم إدراكه بحجم تلك الشرور، وأنه لا يمكنه إيقاف الشخص الذي يكمن تحت جلد، كما لو أنه رجلان في رجل واحد، يتنازعان ويتصارعان، واحد يريه جمال العالم، والآخر يريه بشاعته، والبشاعة هي التي تتغلب عليه في نهاية المطاف، سنرى القسوة على ماريا بأبشع صورها، وما إن تغادره غاضبة حتى يذهب للبحث عنها، ويصور له خياله كيف تخون زوجها مع ابن عمها، ويتبعها الى المزرعة، لا ليعدّل من شكل خيالاته ويستعيد ماريا، بل ليوغل في ظلمة نفسه حين يسقط في مزيد من الشك المفضي الى القتل بأبشع صوره، بعد تفاصيل مروعة وهياج لا يقف عند حدود لرجل فقد كل مستلزمات العيش بهدوء.
رواية النفق، رواية نفسية مكتوبة بكلمات كأنها مشرط الجراح، كاشفة عن دواخل الإنسان، تلك التي لا ترى إلا القسم الفارغ من الكأس، ولا ترى أي ضوء في نهاية النفق، وهي آخر أعمال الكاتب أرنستو ساباتو.. ترجمها الى العربية عبد السلام عقيل، وصدرت عن الأهالي للطباعة والنشر في دمشق.