العبث اللفظي

ثقافة 2021/01/17
...

 
  ياسين طه حافظ
 
قلت العبث اللفظي لأحدد نوع العبث، فهو ليس العبث الوجودي وهو أيضاً ليس عبث السلوك اليومي للعاطلين وإشغال النفس بما لا يجدي، الكلام مقصور على البعض الذي يريد الكتابة أو يريد التعبير عن مسألة، ولا يملك في الوقت نفسه مادة واضحة للكلام. فهو يجد في رصف التعابير لذة هي او لهواً. ليس غير أن يرصف عبارات تتزيا بالشعر أحياناً أو بما كان ينشغل به المنشؤون اللفظيون، قبل قرن، من هوس يظهرون به قدراتهم التعبيرية إلى من لا يمتلكونها من قرائهم، أو من عموم الناس. وهكذا تراكم لنا كمٌّ من الكتب المنمقة المشحونة بانشائية مملة، فلا تجد فيها فلسفة ولا علماً ولا كشفاً عن سر ولا تدري أين هو المعنى. هي في النهاية كلام، لغو بُذِل جهد في صياغاته.
 
نعم المهارات في التعبير مفرحة وهي اجتهاد لخلق عبارة أفضل وأقدر وأفضل على حمل المعنى ونقله. وصناعة التعبير المدهش، الجديد، الأكثر نفاذاً، هي واحدة من مهمات الكاتب ومزاياه. لكن يجب إلا تكون هذه شاغلاً عن الفكر أو المعلومة ولا علم وراءها. في حال كهذه يفقد النص الكثير من، بل كل ضروراته. ما هي موجبات القول؟ نحن نتكلم أو نكتب لنقول شيئاً، لنوصل أمراً أو
 معنى.
نذكر بإجلال فصاحة وبلاغة استاذناً الجليل مصطفى صادق الرافعي رحمه، الله وأجزاء (وحي القلم)، (ورق الورد)، علمت قراءه وعلمتنا اللغة والكتابة. ونذكر بكائيات وتفجعات المرحوم المنفلوطي والتي مع كل تقديرنا لقوة وإحكام جملته، لا نستطيع غض النظر عن الفراغ الفكري
 وراءها. 
نعم كان معبراً عن فرط أحزان العامة وبؤسهم، لكن لا نفاذ وراء المظاهر. هي عواطف وانفعالات في الأعم الأكثر. وإذا كنا نذكر الشيخ الرافعي بالخير ونجد له عذراً في أنه عمل ضمن المناخ الأدبي في زمنه وأكد مهاراته التعبيرية، في أجواء كان ذلك هو الفخر والامتياز فيها، ونذكر الشيخ المنفلوطي بالخير والرحمة والفضل، وأنه كان كاتباً شعبياً اهتم بالأرامل والمحزونين بعواطفه وبلغته التي لا يمتلك سواهم، فنحن اليوم لا نعذر أبناء زماننا فرط التعابير التي لا تحمل معنى والتي تفقد لمعانها في التكرار. وأنا أتابع احياناً ما يكتبه أدباء في الفيس بوك، أملّ بل أقرف من توالي التعابير التي استهلكها التكرار، أما عما نقرؤه من مجاملات بائسة، فليتك
 لا تقرأ!
فرط التعابير أو الإسراف اللفظي انتقل إلى الصحافة. بعضنا ينسى أن في العالم علماً وتخصصات أو ثقافة عامة وما وصلت له فنون الأدب وكمّ تنوعها. هو يضع عنواناً في حقل من حقول المعرفة ويملأ الصفحة بالتعابير، وكأن العالم بحاجة للإنشاءات المدرسية ولتكرار ما يعرفون. 
كيف هذا والموضوع المعلن عنه يستوجب قول رأي أو الأتيان بذكر جديد، عما وضع عنوان له وكتب؟ قد نعذر الكتاب الشباب وممارساتهم وعموم شأنهم في المجال الثقافي، لكن ما بال الأكاديمي المتخصص، يبدأ في مسألة ويروغ بعد سطور لسواها؟ وحتى إذا ارتضينا له ذلك يظل حقنا في أن نسمع منه رأياً أو علماً مما تمخضت عنه ثقافته وأن ينفعنا بإشارة إلى ما نجهله أو إلى ما غفلنا عنه، وله الفضل.
ليحموا رصانتهم، يكتب بعض الكتاب في موضوعات ويعتذرون، أو يتحدثون  عن سواها. وهؤلاء قادرون على أن يكتبوا في ما تحاشوه أفضل مما قد يكتب فيه سواهم وأكثر علمية، لكنهم يريدون ما يبقى وجاهتهم العلمية واحترام الناس لهم، فعفوا عن ذلك.
أكبر خطأ يرتكبه الكاتب أو صاحب البرنامج التلفازي او الكاتب الصحفي، ظنه، أن كل القراء أو المشاهدين المستمعين دونه علماً ومعرفة. فلو فكر بأن من يسمع له، من يقرأ له قد يكون متخصصاً في الحقل الذي يتحدث فيه، لاحتاط كثيراً واهتم وارتفع مستوى كتابته أو كلامه، وهنا يكون قد تحدث ببساطة ولكن بعلمية لا يؤاخذ عليها، وهو المطلوب!
ليس توجيهاً بطراً هذا ولا تعالماً، ولكنه عصرنا وزماننا، عصر وزمان التخصص والكلام عن علم ودراية ولا مجال لأن نسطر صفحات عن لا شيء مهم أو صحيح او نافع. 
المعرفة بالشيء الذي نتحدث عنه مطلوبة. والعلمية في جميع الأحوال مطلوبة، وإن بنسب متفاوتة. وإذا خلت الكتابة من هذين، أعنى الفكر أو العلم، فهي لغو، وجمال الأسلوب وزخرف الألفاظ لا ينهضان حجة أو
 بديلاً.
حسن أن تقدم معلومة أو رأياً، منك أو لسواك، توصلهما بأمانة لمن تخاطب لكن يبقى شرط الإيجاز والأمانة، شرطاً! فالسخاء في الألفاظ والتعابير، إسراف وإضاعة وقت للكاتب والقارئ معاً. أظن بعضاً مما أشرت له من عيوب الكتابة والتأليف، وراء هذا الكم من الكتب التي لا يقرأها أحد فليست هي إلا أغلفة تتلامع وعنوانات!