دبلوماسي في المخابرات!

الصفحة الاخيرة 2021/01/18
...

جواد علي كسار
ليس هذا موضوع في السياسة، بل هو متابعة لشخصية عبر واحدة من أبرع أدوات التحليل؛ وهي المذكرات، الشخصية هي وليام بيرنز الرئيس الحالي لمؤسسة كارنيجي للسلام، والدبلوماسي المتقاعد، والأهمّ من ذلك المرشّح لرئاسة المخابرات المركزية الأميركية، في إدارة الرئيس المنتخب بايدن.
والمذكرات التي أعنيها، هي: «القناة الخلفية» التي دوّن بها تجربته في العمل الدبلوماسي، إبّان ثلاثة عقود من العمل المتواصل مع الإدارتين الجمهورية والديمقراطية، حتى استقالته عام 2014م، كان من بين محطاتها الكبرى عمله سفيراً في الأردن وفي روسيا ووكيلاً لوزير الخارجية، لكن الأبرز هو إدارته لملف المفاوضات السرية مع إيران في سلطنة عمان؛ هذه المفاوضات التي مهّدت للاتفاق النووي عام 2015م.
يعطينا بيرنز في هذه المذكرات التي صدرت عام 2019م، مشاهد مغرقة بالتفاصيل الدقيقة عن وقائع كبرى، مثل حوادث إسقاط طالبان، ومواقف بعض قادة المنطقة، لاسيّما الخليجيون من مخطط أميركا لإسقاط صدام، ورؤى عميقة ومشوّقة عن قادة وسياسيين مثل عبد الله ملك السعودية السابق، وحسين ونجله عبد الله في الأردن، وابن زايد في الامارات، وصدام وعرفات ومبارك والأسد الأب والابن وبوتين، تصلح من فرط دقتها موضوعاً لملف خاص، عن تحليل شخصيات هؤلاء القادة. 
بشأن إيران يحدّثنا عن فشل حلقة اتصالات بين الطرفين، بدأت على عهد بوش الابن، وفي المقابل كان أوباما مصمّماً على تجاوز «التابو» وفتح نافذة التواصل المباشر مع الإيرانيين، و بدأ ذلك بتهنئة علنية بمناسبة النوروز، أعقبها برسالة سرّية وطويلة إلى المرشد خامنئي، أراد أن يكون بحسب بيرنز واضحاً فيها، لولا حذره من انكشاف أمرها، وعواقب تسرّب خبرها إلى الإعلام، بعد أسبوع واحد، وصل جواب المرشد على الرسالة، وهو جواب غامض في المسألة الأساسية التي ترتبط بالتفاوض المباشر، لكنه لم يكن حادّاً.
كان من ثمار الرسائل المتبادلة على مستوى القمة، اجتماعات سلطنة عمان السرية بين الطرف الإيراني بقيادة الثنائي عباس عرقجي ومجيد روانجي، والثنائي الأميركي بقيادة بيرنز نفسه وجيك سولفيان، يرسم لنا بيرنز صوراً تفصيلية لهذه المفاوضات، وكيف أنها كانت تجري بانفتاح و من دون احتقان وبلا مترجم، لأن الثنائي الإيراني يتحدّث الإنكليزية بطلاقة، ويفاوض بمهنية بعيداً عن الايديولوجية، ما سهّل وضع الأسس التي قام عليها الاتفاق النووي بعد سنتين.
أكثر المشاهد إثارة هو الاتصال الهاتفي بين أوباما وحسن روحاني، فقد كان ما يخطط له كيري وظريف، هو قمة بين أوباما وروحاني، لكن بعد تعثّر المشروع تحوّل الطرفان إلى الاتصال الهاتفي، فقد رنّ هاتف روحاني وهو بالسيارة في طريقه إلى المطار، وقد خيّم صمت ثقيل على أوباما وفريقه، في هذه اللحظات الفاصلة بين بداية الاتصال وجواب روحاني، خشية أن يكون في الأمر لعبة مبيّتة، لكن الأزمة انتهت عندما ردّ روحاني، ودام الاتصال ربع ساعة، ختمه روحاني بجملة غير متوقعة، قالها لأوباما بالإنكليزية: طاب يومك!
يتحدّث بيرنز بالعربية والروسية والفرنسية بالإضافة إلى لغته الإنكليزية وقد عدتُ إلى مذكراته وقرأتُ بعض أجزائها ثلاث مرّات بل أكثر، وأنا أعجب كيف استطاع الدبلوماسي السابق والرئيس المقبل لـ سي. آي. أي، أن يكتب رؤاه وذكرياته في أكثر من (500) صفحة، في حين يعجز بعض سياسيّينا عن صبّ تجربته في صفحتين!