لا أتخيل يومًا أني عبرت قنطرة في قريتي مرتديًا حذاء، كما لا أتذكر أني عبرت جسرًا في مدينتي من دون حذاء، ليس مهمًا أن تكون قدماك بحذاء أو من دونه، المهم أن الأرض تقبل أقدامك. العلاقة بين القنطرة والجسرعلاقة بين نوعين من التراب، يعكس النوع الأول العلاقة المتناقضة بين أمومة القرية التراب وأبوة المدينة الحجر، وإذا ما تغلغلت في الاستعارات، تجد النوع الثاني في العلاقات الرحمية بين القدم والقنطرة، التي تبقيك طفلا حتى لو بلغت المئة. كل المشيمات تلقى في ساقية. وبالطبع لن تترك حذاءك في ممشى الحقل كما فعلت فلاحة فان كوخ، ولن ترتديه في المدينة، فحذاء الفلاحة ولد قرينا للحقل، وحين يزداد حضور المقارنة بين قناطر جذوع النخل التي تربط بين ضفتي ساقية، وحضور الجسر الكونكريتي الموصل بين ضفتي نهر، تشعر بانتماء رحمي لقناطر القرية، فالكونكريت أبوة هجينة، في كل منحى للأمكنة ثمة منحنيات للغة، والكثير من مفردات اللغة لاتؤلف علاقة حميمية إلا مع الأرض المتربة.
في ميدان ألعاب اللغة، لايمكنك أن تجد علاقة بين قدميك والجسر، تعبره لتتخلص منه، بينما تجدها ملتصقة كمجرى القدمين في التراب، ولذلك لا تغطى ملاعب الرياضة إلا بالعشب، فالعشب تراب أخضر، تحكي مرونته قدرة الجسم للعودة إلى رحم الأرض.
كنت أحكي لأحد أبنائي أن القناطر تعني طفولة القرية، وأن الجسور شيخوخة المدينة، وفي أعماقنا تنمو الطفولة المتأرجحة، لا يتسرب إليها العجز حتى لو تقدم العمر، بينما تقضم سنو المدينة حيوية الجسد وتحول طفولتك إلى حجر. كنت أحدثهم عن القنطرة القرينة للوعي البكر، للخطوات التي تربط البيت بالمدرسة، في حين يكون الجسر انتقالة من وإلى دون تغيير. ما كنا نتصور نحن طلبة المدارس الابتدائية أن عبورنا لقناطر القرية الفاصلة اننا ذاهبون لتلقي الدروس، كل الأفكار تمحى في الذهاب والأياب، فالقناطر طريق لدروس لم تنته، بينما يتطلب الجسر مواد تضخها المدينة لاغترابك، الجسر فاصلة تؤسس للفصل اللغوي بين ناس القرية وناس المدينة. الشعراء وحدهم يرون جموع الفلاحين وهي تتكدس بيضاء، كأشرعة فوق الجسور. كنت أقول لأولادي أن مسار الزمن لايتوقف، فثمة قناطر نعبرها حفاة، وثمة جسور نعبرها بأحذية، فالمهم هو العبرة، أعني الحياة، فالمعابر المختلفة لحياة واحدة، لغة في اللغات اليومية. ولما كنا نتخيل أن الضفاف عوالم أخرى، كنا نفرق بين الـ "هنا" والـ "هناك"، لم أجد مثل هذه التفرقة إلا في الأدب الفلسطيني. يقول الفلسطيني عن أرضه أنها "هناك"، بينما يعيش هو في الـ"هنا" فالفلسطيني المهاجر لا يريد الاعتراف بأنه خارج ارضه، كما يقول أميل حبيبي، في"المتشائل" لتصبح ثيمة الـ" هنا"والـ" هناك" ملاصقة لهجرة العراقيين أيضا، الـ"هنا" تعني المسكن، والـ"هناك" تعني الوطن: وليس ثمة قناطر بين الضفتين، فقد وضع الحكام جسورا بينهما، ومدوا زمنا تراثيا ادعوا انهم ورثته، فكانت طروحاتهم مليئة بالريبة والشك، وعليك أن تكون في احدى الضفتين جسدًا، بينما عيناك تنظران الى الضفة الأخرى.
استعيد جزءا من طفولتي في صور القرية الحميمية، وعندما انتقلت إلى المدينة فقدت طفولتي، ترتفع القدمان عن التراب، كل شيء في المدينة يشعرك بالغربة، فالزراعة المتنحية تسحب معها طفولة الأشياء، وتبقيك في مواجهة شيخوخة العبور، القرى لا تشيخ بل تذوب، بينما المدينة تهرم كي تموت، كنت أحكي أن سيرتي الذاتية أطراف مشتتة، الكثير منها مبعثر في المدن، لم يبق منها إلا تلك القناطر المستعصية على الاقتلاع، بالرغم من ضمورها. كنت أتحدث وأنا في شبه حلم: أن القناطر صنو قصيدة النثر، لحميميتها حيث المسافة الفاصلة بين صورها بضع خطوات، بينما تبني الجسور صور القصيدة التقليدية كل شيء في القناطر يتم وأنت ترى فضاء الماء وحركة الطير، بينما تغيب صورك في فضاء مدينة الجسور، لذلك يلجأ الشعراء الى حميمية الصور القروية، في حين يغترب الشعر العمودي عنها، ليس من شاعر زار قريته وعاد من دون احمال الطفولة، فبيت القصيدة يبنى بين ضفتي قنطرة. كنت أحدث الشاعر، ان القصائد الموزونة المقفاة، تكتبها الجسور، بينما تكتب القناطر قصيدة النثر. كنت أقول وأنا أكتب: أن سردية القرية مقبرة للأشياء الحية، وأن سردية المدينة حياة للأشياء الميتة. ولك أن تقارن بين قرية تحولت إلى مزرعة، ومدينة تحولت إلى
متحف.