يعكس مفهوم التصميم مجموعة من الإشكاليّات التي تتعلّق بطبيعة هذه الممارسة الفنيّة الجماليّة من حيث ارتباطها بالصنعة المجرّدة، أو الصنعة القائمة على الموهبة والاستعداد البدهيّ الفطريّ للقيام بهذه الفعاليّة لأنّ المعنى الأقرب للتصميم هو الصنعة، لكنّ التدقيق في فضاء المفهوم وضفافه وظلاله وخفاياه يدفع باتجاه عدم الوقوف طويلاً عند حدود الصنعة المجرّدة، وفهم التصميم على أنّه حالة إبداعيّة تقتضي درجة أعلى من الموهبة الخاصة لاتقانها وبلوغ درجة عالية من الكفاءة بشأن إنجازها، على النحو الذي يفتح المفهوم على أفق تشكيليّ عالي المستوى يندرج في إطار الإبداع وليس الصنعة التقليدية المجرّدة.
ينفتح موضوع التصميم كي يدخل في الفعاليّات البشريّة جميعاً على اختلاف أنواعها وتجاربها وتجلّياتها، من الفعاليات الطبيعية الإنسانية إلى الفعاليات الإداريّة والاقتصاديّة والتجاريّة والسياحيّة وغيرها وحتّى الوصول إلى الفعاليات الإبداعية الجمالية، ويجري ذلك كلّه فيما يصطلح عليه "الإعلان" وقد تحوّل إلى فضاء صوريّ إبداعيّ بالغ التنوّع، يعتمد في نجاحه على مدى قدرة فعاليّة التصميم بتفاصيلها وإجراءاتها وحساسيتها وأساليب جذبها، وصار المصمّم البارع عملة نادرة لها ثمنها الكبير في هذا المضمار الفنيّ
الجماليّ.
إذ حين يتّصل التصميم بالجماليات وحيثياتها وطبقاتها فإنّه يعثر على مجاله الحيويّ الرحب والواسع والعميق، لأنّ المفردة من حيث تشكيلها الدلاليّ المتعدّد ذات دلالة مباشرة على فعل إبداعيّ خلاق في جوهرها، فجذرها الفعليّ "صمّم/يصمّم" يفترض في أدائه الحِذق والمهارة والمعرفة والحسّ الإبداعيّ القادر على إنجاز ما يسهم الخيال في صوغه، ومن ثمّ يعتمد إجرائياً على الخبرة والموهبة والذكاء الميدانيّ العارف بقدرة المُنتَج التصميميّ على القيام بدوره الإشهاريّ والإعلانيّ والدعائيّ على أوسع ما يكون، بحيث ينتقل من عتبة العمل الذاتيّ المقتصر على الرغبة إلى العمل الموضوعيّ المتّصل بالمهنة، وهي بلا شكّ مهنة تتوفّر على قدرٍ كبيرٍ من الفعل الجماليّ الخلاق في إنتاج موضوع التصميم.
هل يمكن أن يوضعَ تصميمٌ خاصٌّ للقصيدة في أثناء كتابتها وإنجازها؟ سؤال يندرج في صميم العمليّة الشعريّة ويحتاج إلى تشعّب واسع في الإجابة عنه، إذ إنّ القصيدة على مستوى التصميم لا تختلف كثيراً عن تصميم المجوهرات الذي ينتهي كلّ تصميم فيه إلى تحفة نادرة لا تتكرّر وليس لها شبيه، فالعقل التصميميّ في مجال المجوهرات يسعى دائماً إلى صوغ قطعة واحدة فقط من التصميم بوصفها سرّاً مهمّاً من أسرار الصنعة، ونحسب أنّ القصيدة ليست سوى طراز من الجواهر الكلاميّة لا يمكن أن تتعدّد أو يوجد شبيه لها على الإطلاق، فالشاعر في كلّ قصيدة يعمل على إنجاز تصميم شعريّ مختلف لا يشبه السابق له وللآخرين ولا اللاحق، لذا سرعان ما يتمّ اكتشاف الشبيه الذي يتمّ تقليده، لأنّ الأصل يظلّ محتفظاً ببريقه وقيمته وأصالته
وماركته المسجّلة بلا حدود.
القصيدةُ جوهرةٌ فريدةٌ يتلاحم فيها سحر الكلام مع خصب التجربة وعمقها وحساسيّـها، لا تُشبه غيرها إذ هي مثل الجوهرة الفريدة التي يصمّمها المصمم قطعة واحدة لا يكرّرها أبداً، وإذا لم يتمكّن الشاعر الصائغ من بلوغ طبقة الفرادة في صياغة القصيدة فإنّه سيعيد إنتاج قطعة سابقة، أي أنّها بمعنى من المعاني تقليد للسابق، وربّما بمعنى أكثر دقّة "مزيّفة" لأنّها تقليد لنموذجٍ سابقٍ أصيلٍ، لا بدّ لكلّ قصيدة جديدة أن تكون قطعة شعريّة أصيلة في جدّتها وحداثتها وفرادتها وإدهاشها، وعلى هذا النحو بوسعنا القول إنّ القصائد الجواهر قليلة ونادرة ندرة هذه الجواهر حين تتحوّل إلى مصوغات لا شبيه لها، قد يكتب أي شاعر مئات وربّما آلاف القصائد في حياته بوصفها تمارين شعريّة للوصول إلى القصيدة الجوهرة، أو القصائد الجواهر التي هي قليلة ضرورةً في تجربة أهم شاعر في العالم.
لو فحصنا تجربة أيّ شاعر حقيقيّ في العالم لن نعثر من القصائد الجواهر فيها إلا على عدد قليل جداً، وقد يكفي الشاعر كي يكون شاعراً حقاً أن ينجز ولو قصيدة جوهرة واحدة تميّزه عن غيره وتشير إليه، وتضعه رقماً صعباً في تاريخ الشعريّة يحتلّ موقعه الفريد في مكان لا يمكن لغيره أن ينافسه عليه، وغالباً ما يرتبط الشاعر بقصيدة معيّنة من قصائده لا يُذكَر إلا وتُذكَر معه بوصفها أيقونة شعريّة تميّزه وتشير إليه، وما تجربة قصائد "الحوليّات/المحكّكات" في الشعر الجاهليّ سوى مثال على فعاليّة التصميم والصوغ والهندسة والصنعة، التي يقضي فيها الشاعر حولاً كاملاً بالتمام والكمال حتّى تبلغ القصيدة حالتها الشعريّة المُثلى لتكون جوهرة الشاعر الباهرة.
أمّا أولئك الذين يقضون حياتهم في اجترار كتابات شعريّة كثيرة من دون النجاح في كتابة قصيدة جوهرة، فإنّهم يضيّعون وقتهم فيما لا فائدة منه لأنّهم سيبقون في الهامش المهمل والظلّ المعتم، يقتاتون على فتات موائد الشعراء أصحاب المتون الأصيلة ولا أمل لهم في المثول الساحر الرحب بين يدّي الشعر الأصيل، وما أكثر القول الذي يملأ الصحائف بلا تصميم ولا صنعة ولا موهبة ولا فكر ولا ثقافة ولا خصوصيّة، تتكدّس في الأرجاء بلا أثرٍ يُذكَر ولا قيمة يمكن أن يُحتفى بها على
الإطلاق.