القصة الحقيقيَّة والمروِّعة وراء موبي ديك

ثقافة 2021/01/19
...

أنجيلا كوكاين
ترجمة: جمال جمعة
رجل يشق طريقه عبر الوحل والمستنقعات في ميناء أميركي من القرن التاسع عشر، نانتوكيت، مركز صناعة صيد الحيتان في العالم. يقرع باباً، يدخل، يتوسّل رجلا يبدو عليه أنه كان منهكاً، ليخبره بقصته مقابل مدخرات حياته، لقد سمع شائعات، كما يقول، شائعات عن غرق إسكس، سفينة صيد الحيتان، عام 1820. الرجل (الذي لعب دوره بن ويشا) يتبين في ما بعد أنه هرمان ملفيل. إنه يبحث عن القصة الحقيقية التي ستقوده لكتابة (موبي ديك).
 
منذ نشرها على الإطلاق في عام 1851، أثارت (موبي ديك) الخيال بموضوعاتها التنبؤية والاستطرادية والخطيرة، إلى درجة أنها كشفت القصة الحقيقية التي استندت إليها الرواية. لكن هذه الحكاية الواقعية (عن حوت منتقم يصب جام غضبه على سفينة حوّاتة) تم تكييفها الآن وفق أسلوب رون هاوارد الواقعي المتهور. الفيلم، (في أعماق البحر)، يستند إلى كتاب التاريخ الملاحي لناثانيل فيلبريك الذي يحمل الاسم ذاته.
القصة تروى على هذا القبيل: في عام 1819، تفرد السفينة إسكس لصيد الحيتان أشرعتها وتبحر من نانتوكيت. بعد مضي سنة على الرحلة، 2000 ميل بحري (3700 كيلومتر) غرب أميركا الجنوبية، يبصر الراصود سرباً من الحيتان. ينطلق الحرّابون في قوارب حوتيّة صغيرة لجني صيدهم.
لكن أحد تلك القوارب الصغيرة (قارب زميله الأول أوين تشيس) يتهشم إلى أشلاء بواسطة ذيل الحوت. يعود الطاقم إلى إسكس، وعندها، وفقًا لما ذكره تشيس، يرون "حوتًا عنبرياً ضخماً يبلغ طوله نحو 85 قدمًا يتجه مباشرة إليهم كما لو كان يلتهب بالانتقام".
يضرب الحوت إسكس. وعندما يصدم السفينة مرة ثانية، بدا من الواضح أنها ستغرق. أفراد الطاقم المتبقي المكون من عشرين رجلاً، والبعيدون آلاف الأميال عن اليابسة، انتشلوا ما أمكنهم من المؤن وانطلقوا في ثلاثة قوارب صغيرة من خشب الأرز.
وهكذا بدأت قصة لا تُصدق عن البقاء على قيد الحياة في البحر. قضى الرجال أكثر من ثلاثة شهور في اليمّ واضطروا إلى أكل لحوم البشر من أجل البقاء على قيد الحياة، تم اكتشاف القبطان بولارد وتشارلز رامسديل وهم يقضمون عظام زملائهم البحارة في أحد القوارب، بقي على قيد الحياة أوين تشيس، ولورنس، ونيكرسون أيضًا ليرووا الحكاية. في المجموع، تم التهام سبعة بحارة منهم.
 
حيتان أموميّة
لطالما كانت العلاقة بين البشر والحوتيّات تحمل نوعًا من التناقض الظاهري. نحن منجذبون إلى غموضها وذكائها، في رهبةٍ من حجمها وكياستها، ومع ذلك فقد اصطدنا العديد من الحيتان إلى حد الانقراض، وما زلنا نستخدم اليوم الدلافين والأُرْكات (الحيتان القاتلة) في المناورات العسكرية والترفيه. السبب الأكثر ترجيحًا أن الحوت التاريخي الذي انقلب على إسكس لم يكن بوازع الانتقام، ولكن لدواعي الدفاع عن النفس. ربما كان ذلك لحماية العجول (صغار الحيتان) التي يتم ذبحها بشكل روتيني لجذب أمهاتهم الغنية بالزيت إلى حتفهن السابق لأوانه.
يصف تقرير أوين تشيس المباشر عن الحوت أنه ذَكَر، وقد حدد ذلك الطريقة التي تناولت بها معظم الروايات ذلك الحادث. لكن بالطبع ثمة احتمال بنسبة 50 ٪ على الأقل في أن يكون الحوت الذي هاجم القارب أنثى، حيتان العنبر هي حيتان أمومية، وتشكّل مجموعات اجتماعية قوية، ترعى وترضع عجول بعضها البعض وتعمل بشكل جماعي لحماية صغارها. في حالة التهديد، تكوّن العديد من الإناث تشكيلاً يُعرف بنمط زهرة المَرْغَرِيتا (الأُقحوان) حول الحوت الصغير الذي يحتاج إلى حماية لصد الهجوم. وفي الوقت ذاته، تكون ذكور الحيتان منفردة وتغادر السرب عند البلوغ، وتعود للتزاوج فقط.
 
زيت الحوت
إن الحوت في كل من (في أعماق البحر) و (موبي ديك) هو وحش كاريزميّ، ويبدو أنه يشير إلى العديد من الموضوعات المعاصرة: الرأسمالية، الدين، الاستعمار، المبادئ الأخلاقية، البيئة، والعنصرية. الحوت، مثل الكناري في منجم الفحم*، هو بارومتر بيئيّ أيضًا. نحن، في خضم سعينا وهيمنتنا على الطبيعة، نفضح عيوبنا وضعفنا.
في السعي وراء زيت الحوت، خرق هؤلاء البحارة البائسون تابو أكل لحوم البشر الذي يجلّ وصفه (ومن المفارقة أنهم بمجرد تيههم صوتوا ضد محاولة التوجه غربًا إلى الجزر الأقرب، جزر ماركيساس، بسبب شائعات عن تواجد سكان آكلي لحوم البشر). وبينما كان قوم الكويكرز (الصاحبيّون)** الطيّبون يكافحون في جزيرة نانتوكيت من أجل إلغاء الرقّ، فقد واصلوا أيضًا السعي في الترويض النبيل للوحشيين الذين واجهوا رحلات صيد الحيتان. وضعوا المبشّرين بين أكلة لحوم البشر ليطلبوا منهم 
"أكل" لحم، وشرب "دم" إله جديد.
الحيتان التي كان رجال نانتوكيت يصطادونها في البحر بوحشية هي واحدة من أولى السلع العالمية. أضاء زيتها وشحّم الثورة الصناعية، وأدرّ ثروات هائلة. مطاردة هذه المخلوقات للحصول على الوقود ربما تبدو قديمة اليوم، لكنها كانت النسخة التاريخية للنفط أو الغاز، وهو أمر مصيريّ بالنسبة للاقتصاد العالمي. عند نهاية الفيلم، يقول توماس نيكرسون العجوز: "سمعت أن شخصًا ما عثر على الزيت من خلال الحفر في باطن الأرض. مَن كان يعتقد ذلك!".
إن سعينا وراء الحوت ذي الذكاء العالي، وهو مخلوق جاب المحيط لمدة 60 مليون سنة والذي اضطهدناه حدّ الانقراض تقريبًا، يقول الكثير عن جنسنا البشري. يجب أن نتذكر هذا عندما نفكّر في ميلنا المستمر للوقود الأحفوري.
زيت حوت القرن التاسع عشر هذا زيَّت لنا رحلتنا الخاصة عبر فضاء متخيَّل ومجهول قطع البرّ والبحر، ومن قاع المحيط إلى الفضاء الخارجي. لذا عندما تشاهد فيلم (في أعماق البحر)، يجب أن تأخذ في نظر الاعتبار كيف أن ذلك يعكس سلوكنا الخاص في سعينا المستمر للهيمنة على الطبيعة والموارد.
 
هوامش:
* تلميح إلى طيور الكناري التي يحملها عمال المناجم معهم في أقفاص داخل المنجم لمعرفة مدى كثافة الغازات الخطرة (مثل أول أوكسيد الكاربون) في المنجم، والتي تقتل الكناريات قبل قتلهم، مما يوفر تحذيراً لهم بالخروج من المنجم على الفور.
** الصاحبيّون: مجموعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في القرن السابع عشر، وتطلق عليهم أيضاً تسمية: الكويكرز أو جمعية الأصدقاء الدينية. عرفوا برفضهم المشاركة في الحروب، والامتناع عن شرب المسكرات، ومعارضة الرقّ.
 
The Conversation