محمد جبر حسن
وأنت متوجه إلى موعدكم الأخير، اخترت الجلوس في آخر مقعد من الباص وفتحت نافذته القريبة منك، تريد أن تستنشق هواءً بارداً يملأ رئتيك بعد إحساسك أن هناك شيئاً ما يقبض صدرك.
في الطريق الذي دام خمس عشرة دقيقة، أحببت ان تستحضر بضعَ كلماتٍ وددت أن تقولها لها، كانت الجمل تنفلت من لسانك واحدة بعد الأخرى، وتنفرط الأحرف بلا معنى، تأبى مفرداتها ان تلتصق مفردة على مفردة حتى لا تتحمل أعذارك الواهية، ليس هناك كلمات تستطيع ان تستجمعها وتبرر فيها نكوصك وعدم المضي في قصة حبكما التي كانت فاكهة مجالس المحبين، ليس هناك ما تقوله.. انتهى الأمر وما عليك إلا أن تذعن لرغبتها بأن تعيد لك هداياك وترجع اشياءها التي عندك، ثم تلوذ قافلاً الى مضجعك والى علبة سجائرك ومشروبك الذي أدمنت عليه منذ أن تخاصمت معها، تستمع من خلال جهاز التسجيل الذي قرب رأسك الى أغنية أُم كُلثوم.. (أنساك...! ده كلام...؟ أنساك...! يا سلام...!أهو ده اللي مش ممكن أبداً.. ولا أفكر فيه أبداً.. ده مستحيلقلبي يميل ويحب يوم غيرك أبدا..أهو ده اللي مش ممكن أبدأ).
هل تتذكر؟ حين توقفت الباص ونزلت منها في المحطة التي قرب الكافتيريا، انتبهت الى نفسك أنك ترتدي قميصك الأزرق الذي هي تحبه وتضع عطرك المفضل الذي تعشقه وتبدو بأبهى صورتك وكأنك ذاهب الى موعد غرامي مع حبيبتك وليس ذاهباً لتقطع
علاقتك بها!!
لم تبقَ إلا خطوات وتلتقي بها، دقّات قلبك كانت تتسارع وتتزايد، ها انت امامها وجهاً لوجه، لحظتها تسمرت في مكانك والصدمة اخرست لسانك، لقد فوجئت بأنها تلبس ثوبها الذي أنت تحبه، وتتقلد بالقلادة الذهبية المكتوب فيها اول حرف من اسمك، وتضع على كتفيها الشال الحرير الارجواني الذي اشتريته لها في عيد ميلادها، وتسدل شعرها الكستنائي بالتسريحة التي اقترحت عليها ذات مرة! اقتربتما نحو بعضكما واخترتما ذات الطاولة التي شهدت كل لقاءاتكم، أطرقت عيناكما الى الارض، لم تتكلما قط، وكأنكم فقدتما النطق، لكنك خلسة لمحتها تنظر اليك، قرأت في عينيها حكاية حبكم الطويلة والتي ابتدأت بنظرة عين مثل التي
تراها الآن!
وانت جالس قبالها، وعيناك لم تنفك من النظر الى عينيها، ولا يفصل بينكما إلّا تلك الطاولة الصغيرة، كنت تتمنى ان تحضنها بين يديك وتتأسف لها، وتعترف بخطئك الذي اقترفته بحقها حين تركتها دون ان توضح لها..
لماذا؟
انشغلت ونسيت ما جئت اليه، اخفيت الكيس الذي فيه اشياؤها خلف ظهرك..
في تلك اللحظة قدم لكما النادل كأس ماء لكل واحد منكما، تتذكر أنك استغللتَ الفرصة ومددت يدك لتلتقي بيدها بحجة تريد ان تمسك الكأس الذي سقط واندلق الماء منه دون أن تقصد وساح على الطاولة حتى بلل ثوبها!
انتبهت على صيحة أصغر أحفاده الخمسة: ما هذا يا جدو...؟
هذه المرة الثانية التي تسكب فيها الماء
على ثوبي!