غسان حسن محمد
الشعر فن كل العصور، مفردات تنتظم في سياق تنطلق من النفس لتعود اليها، محملة بشحنات عاطفية ونفسية وذهنية..فن تستبطنه الموضوعية والانزياحات الشكلية والمعنوية، لتفجير طاقات اللغة. منطلقة من منطقة التفسير الى غياهب التأويل.صنعة وجمال بتغايرات منطقية وخيالية أبدعت ما تجود به الأنامل المبدعات.
لم يكن الشعر يجنح الى المنطق، ذلك أنه فن اللاخيال واللاواقع المتحرر من قيود الصنعة إلا في بعض ضرورياتها فيالاوزان والموسيقى وبلاغيات اللغة، على الضد من النثر وتجنيساته المقوننة والمنضبطة ضمن عناصر وتراكيب وسياقات منطقية، وظائفية، علائقية، متآصرة فيما بينها ضمن صنعة تتوافر على الموضوعية والفن والجمال.
بعد أن لفظ الشعر ثوبه القديم وترجل من على صهوة الاوزان والقوافي، ومتح من نبع النثر الراقراق بعوالمه الشاسعة وممكناته اللامحدودة، اصبحت مهمة الشعر ليست باليسيرة، الشعر بإهاب "قصيدة النثر" القصيدة الوسطى في لامنطقيتها ومنطقيتها الجديدة بتداخلها الاجناسي وهي تؤسس عوالمها الابداعية بوليدٍ جديد ينتمي الى الشعر والنثر في آن، مزواجاً بين عناصرهما المتضادة والمفارقة في أحايين كثيرة لايجيد المواءمة بينهما إلا فكر حصيف متقد وأنامل مبدعة تنتج الفن والجمال والمتعة.
النص الشعري يحتوي على عتبات نصيّة لها وظائفها القارة في الايحاء والاسناد والمرجعية والاشهار والاخبار،ومن العتبات غلاف الديوان واسمه والعنوانات الفرعية والرئيسة الداخلية والخارجية والصور واللوحات التشكيلية التي يحتويها والمبرزات في الديوان، كنوع الخط وشكله ومكانه وحجمه ولونه، العتبات النصية التي تعمل كنص موازٍ للكتاب.
ومن اهم العتبات النصية "العنوان" الذي يشبه تماماً عتبة البيت التي تطل على الخارج وتمهد للدخول الى داخل البيت، تعمل كظاهر يفضي الى مخفي، بما تتوافر عليه من وظائفية وعلائقية لفعل يأخذ دوره في الزمان والمكان.
يذكر "جيرار جينيت" في كتابة "عتبات" أن: (العنوان مجموعة من العلامات اللسانية(...) التي يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده، وتدل على محتواه لإغراء الجمهور المقصود بقراءته).العنوان بفعله الاخباري والاشهاري والايحائي والايثاري والتركيبي والتأويلي والدلالي في الكشف عن مقصديات الشاعر ورؤيته المرآوية التي تعمل على اكتشاف الظاهر والباطن للنصوص، وما تحتمل من وقائع وماتلمح له او تبطنه في ذهنيته وانفتاحه على مناطق التأويل والحفريات المعرفية في نص قصيدة النثر المراوغ والمتحرك بأفكاره وثيماته المحلقة بمفردات ترتكب غواية تحريك الساكن في بحيرة اللغة.
"تراتيل طائر الماء" ديوان الشاعر باسم قاسم خنجر والصادر العام 2020، حمل عنواناً مائزاً ودلالات متعددة، فالتراتيل مفردة تطل على عوالم طقوسية تشي بالتأمل العميق ومخاطبة المقدس، باستحضار البنياتالارواحية والنفسية والارتباط بين سماء وأرض عبر أكمل المخلوقات/ الإنسان.
المفردة الثانية "الطائر"التي تنفتح بأوسع دلالاتها على الحرية والانطلاق والتحرر وسمو الكائن، المفردة الثالثة "الماء" مصدر كل شيء حي، الماء مفردة أرضية تفيض عطاء وسخاء وكرما على الكائنات.الشاعر باسم قاسم ولأنه ابن الماء..ابن"ميشا" المسوّرة بالمياة عطفه الشعر على مفرداته البيئية ليبث أفكاره ورؤاه عبر قصيدة النثر.
الإهداء من العتبات النصية المهمة التي تعمل ككشاف يترجم متبنيات الشاعر وما يعتمل في ذاته.
(الى من غفا اسمه في أديم روحي..
من أخطُّ له بمداد الدمع وأنين القلب..
يامن حرمني أفوله الحياة في الحياة..
لروحك يا "حازم" تنحني أبجدية الكون..)(ص5).
الفقد كان له الاثر الفاعل في حياة الشاعر..، ليس أي فقد وهو يرى الى زهرة أخيه وقد ذبلت فداءً للعراق.الفقد الذي يتمظهر في اكثر من قصيدة/فقد الحرية/ فقد السعادات/ فقد الآمال والطموحات/ فقد الحبيبة..الخ.
(لنا الحرية
وقد نُسجت على جذعٍ عتيق..،
يبتعدُ عن أمه الأرض..) (ماذا لو مات الراعي ص13).
تستبدُ بالشاعر حالة الحزن على ما جرى في الحياة من حروب وأزمات سياسية وأخلاقية واجتماعية عصفت بالانسان وآلمته.
(أخشى أن يوقظ الظلام منائري..،
فأرى الهشيم..بدل النجوم). (حبٌّ وحبر ص17).
الشاعر باسم قاسم رأى الى المرأة كمعادل موضوعي للوطن..، المرأة الشجرة المثمرة التي أمرعت أفواها سابغات جوعى..المرأة مدار الحرية وسعادة لاتنتهي.
( تمطرين..تمطرين، حتى يصلني الغرق..،
ولا أدعوكِ "مطر السوء"..،
تصلبينني في أول القبلات..،
وتحينني في آخرها.،
أنت يا أجمل قيدٍ طوقني..،
دونكِ..دونكِ..الحريات كلها..!)
المرأة الموسيقى التي تمرع الفؤاد والروح كعازفة على اوتار الرومانسية والعاطفة والوجدان تحضر بقوة في قصائد الشاعر.
(اِزرعي وردة..، واحرصي على شوكة..تجيد الوصول الى موضع الوجع في روحي، دعي الفراشات..يحلقن في حدائقكِ، واتركي مسرى واحداً في سمائك.. كي تتيه فيه بقاياي)(تصوّف ص35).
(ارسميني إثماً يغير التاريخ فوق شفتيكِ..قبلة لاتشبه القبل! لن أصل.. فأنا أجهل كيف أُراقصُ السماء!)(دليني ص82).
اتسمت قصائد "تراتيل طائر الماء" بأنها انضوت تحت يافطة قصيدة النثر التي انمازت بالايجاز والتكثيف وتوافرها على الوحدة العضوية والموضوعية، بسبك لغوي تدفقت لغة تشي بشعرية تقف على موهبة وحنكة وإبداع للشاعر باسم قاسم خنجر.