الدعوى الدستوريَّة المتعلقة بتصدير النفط والغاز انموذجاً

العراق 2021/01/23
...


القاضي كاظم عباس*
يعد موضوع حسم النزاع بين الخصوم بأسرع وقت ممكن عن طريق إنزال حكم الدستور او القانون أو كليهما من قبل المحكمة المختصة، الغاية الكبرى التي يسعى لها الجميع، والهدف الأسمى الذي تضعه المحكمة نصب عينيها لتحقيق العدالة وسيادة حكم الدستور والقانون من خلال قطع دابر النزاع  والسعي إلى عدم تأبيده، وكلما تم حسم الدعوى ضمن المدة القانونية البالغة أربعة أشهر وبما لا يتجاوز السنة وهو السقف الزمني الأعلى المقبول على مضض كان الحكم أقرب إلى العدالة، بل يعد عنوانا لها وعلى  عكس ذلك فإن العدالة البطيئة هي إلى الظلم والانحياز أقرب.


إن عدم حسم المحكمة للنزاع ضمن السقف الزمني القانوني تستتبعه نتائج وخيمة تجعل النزاع يأخذ منحنى سلبيا يؤثر في جوهر العدالة ويورث انطباعا سيئا بعجز المحكمة عن قطع دابر النزاع بين الخصوم وفقدان استقلالها وحيادها. ولهذا حرص المشرع العراقي على ضرورة أن تتقيد المحكمة بحسم موضوع النزاع القضائي ضمن السقف الزمني المحدد لها، وبخلاف ذلك فإن القاضي المتسبب بتأخير حسم موضوع الدعوى يكون عرضة للتحقيق معه والمساءلة الانضباطية وحتى الجنائية اذا كانت نتائج عدم حسم الدعوى خطيرة تمس المصلحة العامة التي تقود إلى الخراب.
بل يقينا إن أثار هذا الخراب تضرب مديات بعيدة وعديدة وتصيب بمقتل البنية التكوينية للدولة شعبا وارضا وسلطة عندما يكون النزاع يتعلق بأمر ونشاط حيوي يمس النظام السياسي القائم ويقف نظام الدولة برمته على شفا حفرة من الوقوع في الهاوية وذلك عندما يتحتم وتدعو الحاجة الملحة إلى ضرورة حسم النزاع بين الأطراف قضائيا عن طريق إصدار حكم قضائي حاسم وبات بعد أن تتأكد وبوضوح عجز المفاوضات والاتفاقات والتفاهمات عن قطع دابره ولم تبق سوى كلمة القضاء العادل لعلاج المشكلة العضال بعد أن عجز أهل الحل والعقد عن إعطاء الدواء الناجع للمشكلة التي استفحلت وأصبحت مرضا عضالاً.
ولعل من أصدق ما استعصي على  الحل، وأصبح معضلة المعاضل موضوع الاختلاف للفهم الدستوري والقانوني بين المركز والإقليم بشأن قيام إقليم كردستان العراق باستخراج وتصدير النفط إلى الخارج ومدى موافقة ذلك لأحكام  الدستور العراقي لسنة 2005 من عدمه. 
إذ بعد الاختلاف والخلاف الجذري المتأصل بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان العراق والشد والجذب على هذا الموضوع وبعد ان أوصدت جميع الأبواب للحلول السياسية وانهيار الاتفاقات المبرمة بين الفرقاء السياسيين لم يبق سوى طرق باب القضاء. 
 وتم تسليم زمام الأمور والتوكيل في حل هذا الملف للقضاء الدستوري لحل هذا النزاع ممثلا في المحكمة الاتحادية العليا من قبل الأطراف ووفقا للآليات الدستورية والقانونية وهذه النقطة تحسب إلى طرفي النزاع المركز والإقليم في تفويضهما لحله وفقا لأحكام الدستور إلى المحكمة التي يفترض أن تحترم وتقدس الدستور.
وقد تجسد هذا التفويض باقامة دعوى من قبل المدعي وزير النفط في الحكومة المركزية إضافة لوظيفته ضد المدعى عليه وزير الثروات الطبيعية في إقليم كردستان اضافة لوظيفته المرقمة 59/اتحادية/ 2012 والتي أقيمت بتاريخ 1/اب/2012 وقد انضم رئيس مجلس الوزراء إضافة لوظيفته للخصومة بصفة شخص ثالث إلى جانب المدعي في الدعوى وبدأت إجراءات السير بالدعوى بغية حسمها بسرعة وفقا لأحكام الدستور لأهميتها وعلى أمل أن تصدر المحكمة الاتحادية العليا حكما قضائيا حاسما للنزاع خلال المدة القانونية يكون عاملا من العوامل المهمة للاستقرار في البلد على جميع المستويات.
ولكن سرعان ما ظهر عكس ذلك وأصيب الجميع بخيبة أمل كبرى إذ إن المحكمة الاتحادية العليا لم تحسم النزاع خلال المدة القانونية البالغة أربعة أشهر والتي مرت مرور الكرام ومضت سنة ومن ثم توالت السنوات الواحدة تلو الاخرى وبحجج واهية وهي تهرب الدعوى بتأجيلها من موعد إلى آخر. وأصرت المحكمة على عدم حسم النزاع حتى انقضت أكثر من سبع سنوات وبقيت الدعوى تراوح في أدراجها إلى أن نامت مع بقية الدعاوى القضائية الدستورية التي نامت أيضا بسبب دخول البلد في مرحلة الفراغ الدستوري والقانوني الذي تسببت به المحكمة الاتحادية العليا نفسها بسبب إصرارها العجيب على إلغاء النص القانوني الوحيد النافذ الذي يعالج ترشيح وتعيين قضاة المحكمة الاتحادية العليا والذي اقترن لاحقا هذا الأمر بإحالة أحد أعضائها الأصليين الكرام للتقاعد بناء على طلبه ووفاة عضو آخر، رحمه الله، وما نتج عن ذلك اختلال بالنصاب القانوني لتشكيل وانعقاد المحكمة.    
 ان عدم حسم الدعوى المرقمة أعلاه من قبل المحكمة الاتحادية العليا ليس كسلا منها بل هو ناتج عن عدم وجود إرادة حقيقية لها بحسم الدعوى، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما تبنت وسيلة الهروب الى الأمام من مسؤولية إصدار حكم حاسم وشجاع لموضوع النزاع القضائي المطروح أمامها يكون قاطعا في حجيته لأحد الأطراف في الدعوى على حساب الطرف الآخر وهذا ما لا تجرؤ المحكمة الاتحادية العليا على الإقدام عليه لأسباب شخصية مصلحية لها علاقة باقرار قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي تم ترحيل إقراره من دورة برلمانية إلى أخرى، بل ذهبت في دورها السلبي أكثر من ذلك عند نظرها للنزاع وبدأت تراهن على تغيير الوجوه السياسية في مراكز القرار سواء في المركز او الإقليم وفقا لنتائج الانتخابات البرلمانية الدورية بغية مد النزاع الى ما لا نهاية. 
إن أخطر مظاهر الظلم عندما يصدر بوعي تام من الجهة التي يفترض أن تتصدى له وتقضي عليه وقطعا يولد هذا الظلم آثارا كارثية وسلبية نتيجة السلبية في اتخاذ القرار المطلوب في وقته المناسب.
وقد انعكست الاثار السلبية لهذا التخاذل المقصود من المحكمة الاتحادية العليا والانحراف بممارسة سلطتها القضائية بعدم حسمها للنزاع بين المركز والإقليم على كافة المجالات والميادين لعل أبرزها زعزعة الثقة لدى ضمير الأمة والرأي العام بالقضاء الدستوري في العراق وفقدان الثقة به أن يكون حاميا للدستور بسبب عجزه عن حسم النزاع رغم مضي سنوات طوال على إقامة الدعوى.
  كما أن بقاء النزاع معلقا ومؤجلا الى ما لا نهاية بسبب المحكمة الاتحادية العليا عمق الخلافات بين المركز والإقليم وما انتج هذا من حالة التنافر المزمن بينهما حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى القطيعة الكاملة.  كما أن أثر عدم حسم الدعوى من قبل المحكمة الاتحادية العليا يصيب جهود مكافحة الفساد بجميع أشكاله التي تبذل من قبل الجهات المختصة بما يتعلق بملف تصدير النفط او الغاز ويجعل متوالية الفساد والإفساد تسير بوتيرة متزايدة يوما بعد يوم وإن الخاسر الأكبر هو الشعب العراقي المسكين سواء في المركز او الإقليم.   إن وراء عدم حسم الدعوى من قبل المحكمة الاتحادية العليا أجندات تخريبية أضرت واقعا ويقينا بالمصالح الوطنية العليا للبلد كافة اقتصاديا وسياسيا وامنيا. 
اننا على يقين تام ان هذا الأمر لن يمر مرور الكرام من أبناء الشعب العراقي الكريم سواء من هو في موقع المسؤولية أم خارجها لأن القانون لم يكن غافلا عن موضوع عدم حسم القاضي مهما كان منصبه للدعوى التي ينظرها ضمن سقفها الزمني القانوني المناسب وجعلته تحت طائلة المساءلة القانونية والسوابق القضائية بهذا الشأن الانضباطية والجنائية تنطق بذلك.
*عضو محكمة التمييز الاتحادية