في رحاب رواية «مسيو داك» لنزار عبد الستار

ثقافة 2021/01/23
...

ابراهيم سبتي 
 
تعطي الرواية فرصة الإبحار في التأويل والايغال في المعنى الذي يبحث عنه المتلقي. وان كانت الرواية تتخذ من الثيمة الجديدة المليئة بالدهشة والمفاجآت، وسيلة البناء التركيبي لعناصرها، فهي بالتأكيد ستكون متفردة ومبهرة وأكثر قربا من الناقد والمتلقي على حد سواء.
 رواية» مسيو داك” للروائي نزار عبد الستار، تختار الغرائبية والترقب وحبس الأنفاس، كأسلوب يجمع كل وحداتها التي بنيت على اساس الفرادة في اختيار الفكرة والحداثة في تناولها، وهو ما جعل المتلقي يجري خلف الاحداث باندفاع ليكتشف المزيد بل ليكتشف المفاجآت. فكلما أوغلنا في السرد نجد المعنى الضامر واللائذ خلف متاريس الغموض ومجهولية المصير، تتكشف خيوطه خلال رحلة الروي الذي يبدأ بقرار “ربى” الجريء بانتقالها الى لبنان لمكافحة حشرة شجرة الكرز في جنينة توفيق بمساعدة الحكومة اللبنانية متمثلة بوزيرة الداخلية التي تتابع رحلة “ربى” وهي آتية الى لبنان خطوة بخطوة.
 رواية « مسيو داك”، تنطلق في فضاءات متعددة وامكنة مختلفة، لكنها تصب في معنى واحد يصنعه السرد التشويقي الذي ظل يجاري جماليات تلك الامكنة بوصفها المعيار الموضوعي لإسناد الثيمة التي بدت تتضح في تعاقب المشاهد بأسلوب أقرب إلى المطاردات وحبس الانفاس. بداية نحن أمام تصارع خفي لا يلبث أن يظهر إلى العلن بين الشركات الأوروبية التي تحاول اقناع عالمة النبات “ربى” للعمل على مكافحة الحشرة  “ « mevia  التي تفتك بأشجار الكرز، لكنها ترفض العرض وتفضل الهروب ليلا واختراق مجاهيل الخوف للوصول إلى لبنان لتتابعها الحكومة اللبنانية لأجل الوصول الآمن إلى بلدة حمانا لمكافحة الحشرة هناك. 
الواضح أن الروائي اختار ثيمة جديدة أو غريبة أو قل مختلفة عما تتناوله الرواية العربية الحالية من ثيمات وهو ما درج عليه نزار عبد الستار وخاصة في أعماله التي تناولت أفكاراً إنسانية وعاطفية مختلفة بلغته الهادئة المعبّرة، فوضعنا أمام فسحة لم نعتدها من قبل فالراوي مولع بإيجاد مناطق الاشتغال الخاصة التي سردها بنفس متلاحق يقطر عاطفة وعشقا والتي لم يدخلها غيره وخاصة عندما يتناول ثيمات تمتزج فيها الدراما والتشويق لتصنع أنموذجا يسود مفاصله الترقب والمتابعة. 
 في روايته “مسيو داك”، يضعنا الروائي أمام معضلة التحدي والقوة لأجل تحقيق الهدف المرجو الذي تصنعه “ربى” بعلاقة الحب الصادقة وهي بدورها التي تقود الأحداث بصحبة زياد الذي يقتنع هو الآخر بشرعية الهدف رغم التحديات وسلاحهما الوحيد هو الحب “من هنا.. من جنينة توفيق بحمّانا أعلن لك حبي الأبدي” ص 142. في الرواية صراع ظاهر مرة وخفي في مرات أخرى، فكلما يتصاعد الصراع نجد أن حشرة الكرز التي تقوم عليها الأحداث، هي البؤرة الموصلة لمفهوم التحدي منذ الاستهلال حتى الخاتمة. 
فثمة من يجري خلف مكافحتها في جنينة توفيق ومنهم من يحاول التصدي لهذه المحاولات. ولكن المؤشر يشي بأن “ربى” وزياد وهما يجمعان حب وتعاطف الآخرين، سيحققان النجاح رغم كل ما يعتري مسلكهما. لم يكن الحبيبان وحدهما من يصنع الأحداث فثمة شخصيات أخرى مساندة أسهمت في صناعة التخيل السردي الذي يبهر الحكاية مثل “القديس شربل، سائق التاكسي دانيال، سلمى، موسى؟، وزيرة الداخلية، انيس الشلمصطي، عازف الليل، اسماعيل كبّارة، النائب ابو يعقوب، دومنيك وسواهم، وضع الروائي حشرة الكرز كتحد مستفز لبناء الأحداث عليها، واعتبره نقطة حسبت له لنكون على يقين بأن الانتصار في المجابهة يحتاج الكثير من العقد والموانع لتحقيقه وهذا ما كان في “مسيو داك”. 
فثمة ترقب وتتابع منح السرد قوة تأثير وسلاسة قربت المعنى واعطت فرصة للمواصلة عبر مشاهد تتابعت بحرفية. استخدم نزار عبد الستار لغته الناعمة التي عرف بها مستخدما مفردات لها حلاوة وتأثير مثل “شجرة الصنوبر، السنديانة، الجبل، جنينة، أغنية ألف ليلة وليلة، نغمة بومة الليل، الكورنيش، عطر الفهرنهايت، وغيرها”، فمنحت دفقة مشاعر والهبت الحواس “مؤكد... ستبقى المحبة” ص43. 
ونحن كمتلقين نبحر في منطقة حمّانا التي تمثل ربوع لبنان. ان هذه الرواية جمعت بين الحب الثائر والقوي مع التحديات التي تمثلها الحشرة حتى وصل اليأس الى دواخلهما اعتقادا منهما بأن جهودهما ربما ذهبت أدراج الريح لولا الخاتمة الذكية التي رفعت من منسوب الأمل ونجحت مساعيهما من خلال مشهد الطفلة المؤثر وهي تحمل إليهما حبات الكرز “ادرت رأسي إلى اليمين فوجدت طفلة في الرابعة من العمر في فستان أحمر تمسك بصحن من الميلامين الزهري وفيه حبات كرز. ما اسمك؟ مريم” ص 143. وهكذا يمنح الحب انتصاراً مخترقا اليأس والمخاطر وربما وجودهما المهدد.