حميد المختار
جذوره متشابكة تنحدر من أسفل الأرض ومن أسفل الأنهر والغدران، تترقرق مياهه عابقة ويانعة، متدفقة إلى البحور الواسعة تنشر جمالها كفراشات الضوء التي تضيء وتمزق حدة الظلام، سماؤه واسعة تبعث بصور يصمت أمامها الكلام، مبدع من نوع فريد أنجبته أرض رافدينية معطاء، أضواؤه تكسر حدة النصل المختبئ في طيات
الظلام..
(صلاح القصب) مقبل من عمق أعواد القصب السومري، حاملا على كتفيه أمانة يقودها إلى دائرة العالم المبهر، بحر من الخصب والولادة يولد على مسرح عريق ويؤسس صورا خالدة في الذاكرة البشرية، لون جامح وخاطف يُخفي مفاتيحه خلف الكواليس وأمامه أقفال كثيرة صنعها واقع مرير، مسرحه مدينة عامرة بالنيونات يقف أمام أضوائها ليجرب خيالاته المختصرة في الصور، مديات عمق وفكر تفتح مغاليق الدنيا وأزماتها الطاحنة، يفكر في المستقبل كطائر البرق الجوال في حدقات عيون الوطن، صنع فضاءاته من نظريات وابتكارات وخلقٍ من طين الأجساد، شاعر مشع في صورة وامضة ومسرحي يبتكر الجمال وهو محاط بالقبح، خيميائي يحول بلمسته السحرية الرمل إلى ذهب..ذهب له بريقه وعنفوان وفكره، شعره صورٌ وصوره حداثة شعر وفلسفة حضارة ووعي جمال وتجريب يستجيب لوحي هابط من علياء الانسان إلى
قاع الواقع..
لا كلمة لا نأمة لا صوت يعلو سوى ايقاع الضوء ودوائره التي تحيط بأجساد ممثليه الوامضين كالنجوم في سماء الصورة الواحدة.. (صلاح القصب) انسان اختار أن يكون صانعا مبهرا لعوالم خفية وأخرى مرئية خلف الأستار وأمامها، خلف الكواليس والأضواء وأمام الجمهور والأفواه الصارخة من عمق الظلمة ...
كان مع "هاملت" في هذياناته ومع الملك "لير" في شتائه القارص، يطير مع طائر البحر ويغني مع الشقيقات الثلاث يحلم مع الخال فانيا ويحزن لأحزان مهرج السيرك، صانع الخليقة البابلية بلا منازع، قائد حفلة الماس والمايسترو الأوحد في عزلة الكرستال، يلتقط الغضب من حدقتي عيني عطيل المأخوذ بالخيانة، يؤرخ لثورة الزنج ويثأر للخادمات المحتدمات حرمانا ورغبة، مبتكر لحفلات الأزياء، وهو صوت العدالة الحاد في محاكمة لوكولوس، ابن الحلاج وربيبه ونديمه في وحدته وموته الدموي
الشنيع...
ذلك هو صلاح القصب رمز العراقة المسرحية وضوء الحداثة وما بعدها، المنظّر والمبتكر والبروف المحتدم حضورا وابهارا في مسارح العالم، مازلت أسمع وقع خطى صوره على أرصفة ذاكرة الابداع وهو يسير في شارع صاعد إلى أفق مفتوح على مصراعيه يكاد يطير بلا أجنحة أو ريش .. انه الانسان الذي قرر أن يكون رسول الجمال والضوء البارق في عتمات
العالم ...