صلاح حسن السيلاوي
سؤال طالما خفق بأجنحة دهشته في مخيلتي عن علاقة مشهدنا الثقافي بمؤسساتنا التعليمية، وأخص بذلك الجامعة التي تعد أهم ركيزة في هذا الشأن. لا شك عندي في أن الجامعة العراقية رفدت مشهدنا الثقافي بقامات مبدعة مهمة، فرواد الشعر الحديث والسرد والفن التشكيلي، كانوا نتاج هذه العلاقة القوية بين مشهدنا الثقافي الحر والجامعة بوصفها مؤسسة ذات نظام تعليمي مقنن، لكنَّ الغريب في الأمر أن الأخيرة التي أسهمت بصناعة كثير من مجد الثقافة العراقية تبدو الآن على غير عادتها.
فلم يعد أغلبُ الطلاب الجامعيين عارفاً بمضامين ثقافة بلاده، ولم تعد الدراسات المعرفية والثقافية في هذه المؤسسة ساعية إلى إيجاد زاد يغذي الذائقة ويصنع تغييراً اجتماعياً في مفاهيم الحياة والجمال.
الجامعة مؤسسة معنية بتقديم أهم أمرين يعينان المجتمع ليتماسك ويبقى على لائحة التفوق الإنساني، هما صناعة تعليم متطور أولا، ثم الحفاظ على هوية المجتمع وخصوصيته مع الإيمان بالتطورالناتج عن تعالق وتخادم المجتمعات الذي يؤثر بإحداث تغييرات نسبية على مظهر ومبنى الانسان، بمعنى أن الجامعة معنية تماما بإحداث التغييرات الاجتماعية بما ينسجم مع القيم التي يتوافق عليها أغلب سكان الأرض من جانب، وخصوصية المفاهيم الاجتماعية في البلاد من جانب آخر.
إلا أن جامعاتنا لم تستطع أن تحافظ على الأمرين فمستواها التعليمي دون كثير من الجامعات في العالم، والمنطقة العربية ايضا.
وليس هنالك ما يدل على تمكنها من الحفاظ على هوية الثقافة العراقية وخصوصيتها، بدليل تدني المستوى الثقافي للخريج العراقي مقارنة بمستواه في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهذه مشكلة كبيرة لابد للجامعة من مناقشتها والبحث عن حلول لها.
الواقع المر الذي تعيشه جامعاتنا يضطرني لطرح سؤال سطحي هو: أيمكن أن نعد الجامعة العراقية مؤسسة ثقافية؟ بمعنى أنها تُخرِّجُ طلاباً عارفين بثقافة بلدهم ومنتجين لإبداعات تنتمي لها أو لا تتضاد معها على الأقل؟.
من المؤكد أن قدرة جامعاتنا على صناعة إبداع جديد يزيد من رصيد الثقافة والمعرفة العراقية لا يفي بحاجة المجتمع للأسف. هذا يضر بالرصيد الثقافي للمجتمع لأنَّ الإبداع فقد المؤسسة التي كانت ترفده بقامات ثرية إلا في استثناءات قليلة، فضلا عن أن هذا الواقع يهدد مستقبل الأكاديمي العراقي لأن أستاذ الغد سوف يولد من بيئة الطالب الذي نتحدث عن ضعف اهتمامه بثقافة بلده.
التعليم العراقي غير مشغول بصناعة جيل مثقف، بقدر انشغاله بإطلاق هذا الجيل في ميادين طويلة للركض وتشجيعه على قفز حواجز الامتحانات النهائية، من أجل الوصول لخطِ نهايةٍ مختومٍ بشهادة اجتياز مرحلة من الحفظ والتلقين.
هذا ما أوصل الدولة لاحتواء كثير من غير العارفين بمفاهيم الحياة وخصوصيات المجتمع وأصول التعامل مع أديانه ومذاهبه وقومياته، فمن أخطاء هذه المؤسسة أن خطابها التعليمي العام يميل مع الحاكم، أينما تذهب السلطة تميل المناهج بخطابها ليبقى طلاب العلم بعيدين عن ثقافة الوسطية واحترام التعددية.
أما معالم الثقافة في البنى المعنوية والمادية فيمكن الانطلاق في الحديث عنها من نظرة متفحصة للتخطيط العمراني لمدارسنا الابتدائية والمتوسطة والاعدادية التي لا تتناسب مساحتها ولا بنيتها الهندسية مع متطلبات العلم وتنوعه، فلا ساحات كافية لدرس الرياضة ولا خشبة للمسرح ولا قاعة للسينما ولا مكتبة للقراءة ولا قاعة للفن التشكيلي أو للموسيقى.
أما غياب المناهج الدراسية لدرسي الرياضة والفنية فهذا دليل يؤكد غياب الرؤية الفنية والثقافية لدى صناع المناهج، بل إن سطحية درس الفنية وإلغاءه غالبا، دليل كافٍ لتوضيح مقدار تراجع العلم أمام جهل بعض الساسة وغياب سعيهم لإزاحة الإنسان عن مناطق الظلام، غياب سعيهم عن رفعه إلى منصات المعرفة وأفواه النور ورشاقة المعاني الانسانية.
الجامعة التي كانت تخرج جماعات شعرية وفنية مهمة، أصبح بعضها منبراً لصناع النكتة الساذجة والشعر السطحي، صار بعضها بعيداً عن صناعة وعي اجتماعي بأهمية الشعر في الحياة وضرورة تذوق الفرد للمفاهيم الإبداعية،
وفي هذه المنزلة من الحديث يمكننا أن نتساءل عن المهرجانات والجوائز الشعرية والثقافية والإبداعية التي تقام في الجامعات، على الأقل الكليات المختصة بدراسة الفن والأدب واللغات؟ كما يمكن التساؤل عما تنتجه كليات اللغات من كتب مترجمة يحتاجها المجتمع في تتبع آخر ما يقوله العالم على مستوى الفن والادب والعلم؟.
ما هي القدرات المتوفرة للجامعات في دعم ثقافة البلاد؟ وأين تذهب كل بحوث التخرج وأطاريح الماجستير والدكتوراه التي تختص بالشأن الفني والإبداعي، لاسيما تلك التي تحصل على درجات مهمة أثناء تقييمها وإجازتها، لماذا لا تطبعها الجامعة وتطرحها في سوق الكتب لينتفع منها القراء؟.